معارضو صدام حرضوا البيت الأبيض وحليفه البريطاني على غزو العراقعبد الإله بلقزيز 2014/04/11 - 03:00:00
لم يكنِ الإسلاميون أوّل فريقٍ سياسي، في البلاد العربية، يستدرج التدخل السياسي والعسكري إلى ديارنا العربية بسياساته؛ فلقد كان الاجتياح العسكري العراقي للكويت، في الثاني من أغسطس/آب 1990، من السوابق السياسية-غير الإسلاموية-التي وفّرَت الذرائع الكافية لعملٍ عسكري خارجي شامل ضدّ العراق، لم يُفْضِ إلى انسحاب جيشه من الكويت، فحسب، وإنما قاد إلى تدمير قدرته العسكرية الاستراتيجية، وبناهُ التحتية الارتكازية، في ما عُرِف بعملية «عاصفة الصحراء».
والأنكى من ذلك أنه كان ذريعة لفرض حصارٍ قاسٍ عليه، دام لفترة ثلاثة عشر عامًا، أرهق الدولة والمجتمع، وأضعف قدرتهما على مواجهة أي خطرٍ خارجي، كما تبدّى ذلك أثناء غزو العراق واحتلاله في مارس/أبريل 2003.
وعلى مثال الخطوة العراقية، التي استجرَّت التدخل العسكري الخارجي، انتظمتِ المعارضةُ العراقية السابقة، في عهد صدام حسين (الحاكمة اليوم)، في خط المشروع الأمريكي لـ «تحرير العراق»، الذي هنْدَسَهُ صقورُ المحافظين الجدد، في الولاية الأولى لجورج بوش الإبن (شارل بيرل، ودونالد رامسفيلد، وبول وولفويتز، وكوندوليزا رايس...)، فقدّمت للأمريكيين ما لديهم من معلومات استخبارية، مستقاة من ضباط منشقين (حسين كامل، وآخرين)، واصطنعت أخرى من خيالها (ورَّطت كولن باول، وزير الخارجية، في إحدى جلسات مجلس الأمن؛ قدَّم فيها معلومات مكذوبة-اعترف الأمريكيون لاحقًا أنها كذلك-عن مواقع إنتاج أسلحة الدمار الشامل...!). ولم تتوقف المعارضة تلك عن تحريض البيت الأبيض، وحليفه البريطاني توني بلير، على التدخل العسكري، وغزو العراق، لإسقاط النظام القائم، ولو على حساب استقلال البلد وسيادته!
غير أن سيرة «الإسلام الحزبي» و «الإسلام الجهادي» مع هذه المسألة موضوع البحث (استدراج التدخلات الأجنبية) أبعدُ أثرًا، وأَدْعى إلى الخطورة وسوء العواقب، من أي سيرةٍ سياسية أخرى؛ فسياساتها لم تعد مجرَّد خطأ في الحساب والتقدير، مثلما كانتْه الخطوة العراقية، في صيف العام 1990، وإنما هي صارت سياسة كاملة، أو أشبه ما تكون باستراتيجية عمل تبني على سابقة المعارضة العراقية، وتضيف إليها، كما في حالة «الإخوان المسلمين» في مصر وسورية وليبيا مع حلفائهم الغربيين؛ وهي، في وجهٍ ثانٍ منها (أي السيرة السياسية المشؤومة)، تكشف عن توغُّلٍ أعمى في نهج عدم حسبان العواقب، من طريق الإمعان في إرهابٍ لا ضفاف لمغامرته سوى العقاب العسكري الأجنبي؛ كما في حالة قوى «الإسلام الجهادي».
نحن أمام وجهيْن من سياسة استدراج القوى الحزبية الإسلامية للتدخلات الأجنبية لا يختلفان في النتائج وإنِ اختلفا في المقدمات: أولهما الصدام المباشر بين الجماعات الإسلامية مع المصالح الغربية، وما يفضي إليه من تدخل عسكري غربي للردّ على تهديد تلك المصالح، إمّا من طريق توجيه ضربات محدودة لمصادر التهديد، مع ما يستتبعها من استباحة (جوية خاصة) لسيادة الدول التي تقيم على أرضها الجماعات الإسلامية المسلحة (باكستان، اليمن)، أو من طريق حروب موسَّعة تستباح فيها أوطان المسلحين أو أوطان غيرهم ممّن يوفرون لهم الملاذ (أفغانستان، الصومال، مالي...). وثانيهما استسهال بعض قوى «الإسلام الحزبي» توجيه الدعوة إلى القوى الأجنبية للتدخل العسكري لإسقاط النظام القائم في بلادها، من دون أن تعير اهتمامًا لنتائج ذلك على صعيد استقلالٍ سيضيع، أو سيادة ستستباح! أو دعوتها تلك القوى (الأجنبية) إلى ممارسة الضغوط المالية والحصار الاقتصادي على نظمها، من دون الانتباه إلى أن شعوبها هي من يدفع، ابتداءً، الثمن القاسي لتلك الضغوط، ولذلك الحصار!
ربما كان استدراج التدخل الأجنبي، في الحالة الأولى، غير مقصود، ولا مرغوبٍ فيه، من قِبل الجماعات المسلّحة «الجهادية». غير أن مجرّد ضربها المصالح الغربية، وإزهاقها أرواح مواطنين غربيين، مثلما حصل في نيروبي ودار السلام ونيويورك ومدريد ولندن، كان يكفي كي تجد نفسها في مواجهة ردود عسكرية وأمنية أجنبية في غاية القسوة، وأن تنتقل ساحة الحرب ضدها إلى عقر دارها، وأن تُخْلَع على تلك الحرب الصفةُ القانونية -عبر مجلس الأمن الدولي- بصفتها حربًا مشروعة ضدّ الإرهاب (وهو، عند الأمريكيين والأوروبيين، إرهاب لأنه مسَّهم مباشرة، وفي مقتل، أما أن يَضرب هذا ضربته في الجزائر ومصر والسعودية والمغرب...، فليس ذلك شأنًا يعنيهم كغربيين، ولا يشكل مناسبة لسنّ قوانين دولية حوله!. ولقد بدتِ الجيوش الأطلسية، في حربها العنيفة على الجماعات «الجهادية» المسلّحة، في حالِ دفاعٍ عن النفس حَمَلها عليه تعرُّضها للهجوم من قِبل تلك الجماعات. وبرَّر لها ذلك أن تفعل بأعدائها أفاعيل الإبادة، وأحيانًا بأسلحة محرَّمة دوليًا، من دون أن تتوقف عند أيّ اعتبارٍ سياسي أو أخلاقي. ومع وحشية الحرب الأمريكية على الإرهاب، نجحتِ الولايات المتحدة، وحليفاتها، في أن تقدّمها إلى العالم بوصفها حربًا أخلاقية وعادلة؛ ضدّ الشّر المتمثل في قتل الأبرياء بدمٍ بارد، وترويع الآخرين في مدنهم وديارهم، وتحويل حياتهم إلى جحيم أمام سيف التهديد. وأيًّا يكُن الموقف من تلك الحرب، فإن الذين استدرجوا التدخل العسكري الأطلسي في أفغانستان، والصومال (مباشرة في التسعينيات وبالوكالة من خلال أثيوبيا، ومالي، يتحملون أقساطًا من المسؤولية عن تلك الدماء التي سالت، والحريات التي سُلبت، والدمار الذي لحق البلاد والعباد.
ولقد حصل الاستدراجُ عينُه، نسبيًّا، في بلدان عربية وإسلامية عدة (السودان، اليمن، باكستان) كان للجماعات الإسلامية المسلحة وجودٌ فيها، من دون أن تؤول السلطة فيها إليها. ما حصل في سودان «ثورة الإنقاذ» من إكراهِ الجنوبيين، غير المسلمين، على الخضوع القسري لتشريع أهل الشمال، وعلى العزلة والتهميش؛ وما حصل من حروب في إقليم دارفور، قاد الأصولية السودانية إلى خيار التقسيم، وإلى قبول مبدأ انفصال جنوب السودان! وما جرى من انتشار وتوسُّع كثيفين لتنظيم «القاعدة»، ونظائره في اليمن وباكستان (="طالبان" باكستان)، أفضى إلى الحرب الجوية اليومية (بطائرات من دون طيار)، وقد تزايد أعداد ضحاياها من المدنيين، فضلاً عن المسلّحين. ومرةً أخرى، كانت القوى الإسلامية و «الجهادية» هي مَن استدرجَ القوى الأجنبية إلى التدخل: التدخل السياسي التقسيمي، كما في حالة السودان، والتدخل العسكري اليومي كما في حالة اليمن وباكستان.
نتائج استدراج التدخل كانت باهظة، وثقيلة التبعات على البلدان التي وقعت عليها؛ سواء كانت بلدانًا للجماعات الإسلامية أو ملاذًا لها: احتلالٌ كامل لبلدٍ إسلامي (أفغانستان)؛ واحتلالٌ جزئي لبلدين آخرين (الصومال، مالي)، وتقسيمٌ لبلد عربي إلى دولتين، (السودان)، واستباحة عسكرية يومية لبلدٍ عربي (اليمن)، ولبلد إسلامي (باكستان)، ناهيك بما تتلقاه الجماعات الإسلامية المسلّحة، يوميًّا، من جحيم النيران التي تلقيها الطائرات الغربية على قواعدها ومواقعها في البلدان التي هي فيها: مواطِنةً أو لائذةً بها! وليس هذا بالقليل الناجم من سياسة الاستدراج تلك.
أما في الحالة الثانية، من حالات سياسة استدراج التدخلات الأجنبية، فنحن أمام ظاهرتين مثيرتين، إلى حدٍّ بعيد، في سلوك الحركات الإسلامية التي أتت سياسةَ الاستدراج تلك؛ أولاهما أن هذه الحركات تنتمي،خلافًا للسابقة، إلى ما يُعتَبَر عند كثيرين إسلامًا حزبيًّا «معتدلاً»، وفي جملتها جماعة «الإخوان المسلمين» وما شاكلها من جماعات حزبية إسلامية لم يُعرَف عنها حملُ السلاح، رسميًّا، أو التصدُّر للنهوض بأمر «الجهاد»، بل عُرِف عنها جنوحٌ شديد للبراغماتية السياسية، حتى أنها اتُّهِمت، من قبل الجماعات الدينية المتطرفة، بأنها تخالف نهج الإسلام. وثانيهما أن سياسات الاستدراج، التي سلكتها، لم تترتب عنها نتائج التدخل موضوعيًّا، على نحو ما كان عليه أمرُ تلك السياسات مع «الإسلامية الجهادية»، وإنما هي قصدت إليها قصدًا، وبَنَت عليها استراتيجيات وبرامج عمل لـ «التغيير» السياسي في بلدانها!
نحن لا نستطيع أن ننسى أن الفرع العراقي لجماعة «الإخوان المسلمين» (الحزب الإسلامي) كان في جملة أحزاب المعارضة العراقية (السابقة والحاكمة حاليًا)، التي طالبت الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل العسكري لإسقاط النظام، وشاركَ الحزبُ الاحتلالَ الأمريكي في مؤسساته التي أحدثها الحاكم «المدني» بول بريمر (مجلس الحكم الانتقالي)، وجاراهُ في سياسات تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها. ولم يتوقف كثيرون -من أسفٍ شديد- أمام هذه «النازلة» الخطيرة: مشاركة فرع من فروع «الإخوان» في سياسات استدراج التدخل العسكري الخارجي، والتعاون مع الأجنبي بعد احتلال الوطن، والوقوف موقفًا سلبيًّا من أعمال المقاومة! بل ظل الكثير من هؤلاء يحسنون الظن بموقف «الجماعة» على اعتبار أن «حماس» تنتسب إليها، وأن «إخوان» مصر يعارضون نظام حسني مبارك، وأنهم «شركاء» للقوميين واليساريين في «المؤتمر القومي الإسلامي»!
وحين اندلعت أحداث ما يُعْرَف، في الخطاب الإعلامي الغرْبي، باسم «الربيع العربي»، لم يتحرَّج «الإسلام الحزبي المعتدل» -ممثَّلاً بـ «الإخوان المسلمين»- في الجهر بسياسةِ توسُّل التدخل الأجنبي خيارًا رئيسًا من خيارات إسقاط النظام (كما في ليبيا وسورية)، أو ارتضاء الضغط السياسي الأمريكي على مؤسسات الدولة لقبول صعود «الإخوان» إلى السلطة في مصر. أما حين فقدوا السلطة، نتيجة أخطائهم السياسية القاتلة، وسوء إدارتهم أمورَ الدولة، ونزعتهم الجارفة إلى احتكار السلطة واستبعاد الشركاء في الثورة، وتحديهم الاستعلائي مطالبَ الرأي العام والمعارضة، فلم يبق لهم من خيارٍ سوى الردّ العنيف بوسائل العنف المدني؛ من مظاهرات واعتصامات -كما في ميدانيْ رابعة العدوية ونهضة مصر- سعيًا في توتير الأوضاع، واستدراج السلطة إلى ممارسة العنف، قصد استدراج التدخل الأجنبي؛ الذي لم تُخْف وسائلُهم الإعلامية -مثل قناة «الجزيرة»-الإفصاح عنه، إفصاحًا مباشرًا، من طريق التحريض اليومي عليه!
لا نتزيد حين نذهب إلى القول إن سياسة استدراج التدخل الأجنبي -وهي ما انتهى إليه سلوك «الإسلام الحزبي» -لا تترجم، في الواقع، سوى ذلك النقص الحادّ في الوطنية لدى من سلكوا، ويسلكون، هذا الدرب! إنها تعني أن السلطة أقدس من الوطن وأَوْلى، وأن كلّ شيء يهون ويُسْتَرخص من أجلها، حتى لو كان في جملة المبادئ والماهيات! وهو -في الأحوال كافة- منزلق سياسي خطير شديدُ العواقب على الوطن، وعلى مَن يركبونَ مجاهل الاستدراج. وهو، بالمثل، ينبهنا إلى العلاقة المضطربة -غير المستقيمة- بين الإسلاميين وفكرة الوطن. وتلك مسألة أخرى ليس المقامُ مقامَها.