ثلاثة أعوام على الربيع العربي: حساب الأرباح والخسائر - 1/ 2

يكتبه - د. يوسف مكي       2013/12/15 - 03:00:00               

تؤرخ بداية الربيع العربي، بالسابع عشر من ديسمبر 2010، يوم أضرم الشاب محمد البوعزيزي في تونس النار بجسده، تعبيراً عن غضبه على أوضاعه الاجتماعية، والمهانة التي ألحقتها به سيدة تعمل شرطية. وقد اندلعت الاحتجاجات في اليوم الثاني، وعمت المدن التونسية. تضامنا مع البوعزيزي. وحملت الاحتجاجات شعارات الرفض للبطالة وغياب العدالة الاجتماعية، وتفاقم الفساد. وتواصلت الاحتجاجات حتى 14 يناير، مجبرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي على التنحي عن السلطة، ومغادرة البلاد. حين بدأ موسم الاحتجاجات العربية في تونس، لم يتوقع أكثر الناس معرفة بأوضاع المنطقة، أننا على أبواب إعصار لا يبقي ولا يذر. انتشر الإعصار بسرعة خطفت الأبصار بعد تونس، إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا... وأدت سرعة انهيار ثلاثة أنظمة سياسية عربية، واحتمالات انهيار أخرى، لوصف الإعلام الغربي موسم الاحتجاجات بالربيع العربي. والمقصود هو تشابه أحداث منطقتنا بما جرى بأوروبا الشرقية بعد سقوط حائط برلين، حيث انهارت جميع الدول الاشتراكية في وقت متقارب، بشكل أذهل العالم. وقد وصفت تلك التحولات، بربيع أوروبا الشرقية.
رغم الفوارق الكبيرة بين ما جرى بأوروبا الشرقية، في التسعينات من القرن الماضي، وما جرى من أعاصير بالوطن العربي، فإن تعبير الربيع ظل وصفاً شائعاً ومعمولاً به في وسائل الإعلام بالحالتين.
ما جرى من إعصار، أحدث تحولات مست منظومة النظام العربي الرسمي، الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، وأسقط نُظماً سياسية، وتسبب في تفتيت كيانات وطنية، ولم تكن نتائجه كما حلم كثيرون، حلا لكل المعضلات والمشاكل الاجتماعية، ودخولا في عصر جديد، تتحقق فيه الحرية والعدالة، الجناحان اللذان لا يمكن لأي مشروع نهضوي حقيقي التحليق من دونهما.
تداعيات ما جرى وإسقاطاته على الأوضاع في الوطن العربي، ومرور ثلاثة أعوام على بدء هذا الإعصار، يجعل من اللازم تقديم قراءة موضوعية وتحليلية لما جرى، تناقش حساب الأرباح والخسائر في سلسلة مقالات، ابتداء من هذا الحديث، لعلنا نتمكن من فك بعض الطلاسم، وليكون ذلك مشجعاً، للمثقفين العرب، للاشتغال على مرحلة الإعصار هذه، والإجابة عن الأسئلة المتوجسة، التي ظلت متوثبة حتى هذه اللحظة.
وبدهي أن حادثة البوعزيزي في تونس، ليست السبب الحقيقي فيما حدث بتونس وبقية البلدان العربية التي طالها الإعصار. فالذين رحلوا إلى العالم الآخر، بنفس الطريقة قبله وبعده كثر. ولم يتسبب إقدامهم على إضرام النار في أجسادهم أي تغيير. لم تكن حادثة البوعزيزي سوى القشة التي قصمت ظهر الجمل.
وإذا ما عدنا إلى توصيف ما جرى بالربيع العربي، فإن المشترك بين ربيع أوروبا، وبين ما حدث في منطقتنا العربية، هو أن كليهما حدثا في بداية مرحلة انتقال من نظام دولي إلى آخر. فسقوط أوروبا الشرقية، وتحولها من أنظمة شمولية، بنهج مغلق اقتصاديا، إلى أنظمة تتبنى سياسة الأسواق المفتوحة والنموذج الغربي في الحكم، كان إيذاناً بانتهاء التعددية القطبية، وهيمنة الولايات المتحدة على صناعة القرار الأممي كقطب أوحد. وبالمثل، فإن ما عرف “بالربيع العربي”، جاء متزامناً مع بروز قوى دولية جديدة، على رأسها روسيا والصين، وتمثلها مجموعة ال”بريكس” .
المشترك الآخر، أن كلا "الربيعين" حظيا بتأييد غربي، وأن التحضير لهما ارتبط بتحركات واسعة، واستقطاب واسع من منظمات ومؤسسات دولية، تحت شعار حقوق الإنسان. فما هو متوافر من وثائق يؤكد أن الولايات المتحدة والأوروبيين، بذلوا أقصى ما في وسعهم لتحقيق اختراقات عميقة وسط الشبان اليافعين في أوروبا، لزرع القيم الليبرالية الغربية. في بلدان الربيع العربي، وحتى في البلدان التي لم يطالها هذا الهشيم، عملت المؤسسات الأمريكية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي ولا تزال، على استقطاب الشباب اليافعين، بنفس الطريقة التي تمت مع دول أوروبا الشرقية.
تعقد دورات مكثفة بالبلدان العربية ودول الاتحاد الأوروبي، مدفوعة الثمن، لتلقين الشباب سبل التحريض على حكوماتهم. وتؤكد التقارير ضلوع عدد كبير من المنتمين إلى مجموعتى 6 أبريل وخالد سعيد، في هذه الدورات، وأنه تم تدريبهم على العصيان المدني والاحتجاج السلمي، وثقافة "اللاعنف". وقد برز عدد كبير منهم كقياديين في ميدان التحرير، وميادين الاحتجاجات في بنغازي وصنعاء، وافتضح أمرهم لاحقا، بعد نشر وثائق ويكيليكس.
نقطة الاختلاف بين الربيعين، أن الأول موجه ضد أنظمة سياسية معادية للغرب. فقد كانت دول أوروبا الشرقية، حليفة للاتحاد السوفييتي، وترتبط معه بحلف عسكري، هو حلف وارسو، وتحتمي بمظلته النووية. أما الدول التي شملها الربيع العربي، فبعضها حتى لحظة سقوطها بقيت موالية للغرب.
وفي هذا السياق، يجدر التذكير بتشابه الشعارات التي رفعها الشباب اليافعون، بالميادين الرئيسة، في كلا الربيعين. تبنت الشعارات في الحالتين مطلبي الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة. وهي دعوات تحمل معنى الانتقال من قيم الأنظمة الشمولية إلى القيم الليبرالية السائدة في الغرب، وإجراء تحولات تتسق مع روح العصر، وفقا للرؤية الغربية، لكن الأمور دائماً تقيم بخواتيمها.
بدهي أن يتعاطف الجمهور مع مطالب التغيير، رغم أن ما كشفت عنه الحوادث اللاحقة، من فشل ذريع لمشروع التغيير، نتج عن هيمنة جماعة الإخوان المسلمين، على السلطة في معظم البلدان التي طالها الإعصار. إن ذلك يعيدنا لقوانين التطور الاجتماعي، التي تفترض وجود شروط خاصة، بنيوية واقتصادية، لنجاح التحولات التاريخية الكبرى. فليس يكفي أن يتجمع الناس بأعداد كبيرة في الميادين، وأن يتنحى أو يقتل المسؤول الأول في الحكم، ليتحقق التحول السياسي.
  وحين تكون نتائج الحراك تفتيت الكيانات الوطنية، ونشر الفوضى، وغياب الأمن والاستقرار، واستفحال ظواهر الفساد، وبقاء الأمور على ما كانت عليه من قبل، فإن ذلك يستدعي موقفاً آخر من الحراك. إن الارتقاء بمكانة الإنسان، والتأكيد على المواطنة، وسيادة دولة القانون، يفترض اتجاه بوصلة التحولات إلى الأعلى، وليس في اتجاه ناكص، يغوص عميقا في التاريخ السحيق، ويغيّب قيم المدنية والحضارة.
لا شك أن عوامل داخلية، تسببت في الانفجار الذي مرت به البلدان العربية. لكن ذلك لا ينفي وجود أيادٍ خارجية أسهمت فيه، مستغلة حالة الغضب. يتأكد ذلك، إذا ما تابعنا التطور السياسي بالبلدان العربية، في العقود القليلة الماضية. لقد شكل استهداف الأمة، هدفاً في الاستراتيجيات المعلنة للدول الكبرى. وقد مكنتها الثغرات المتراكمة في مجتمعاتنا العربية من تحقيق أهدافها.
ومن جهة أخرى، خلق عالم القرية الإلكترونية الصغيرة، المتشابك، وثورة المعلومات، حقائق جديدة أهمها، بلوغ الشفافية مرحلة غير مسبوقة، جرت تعرية السياسات، بالداخل والخارج. وتكشف بوضوح كذب الغرب، وتأكد أنه غير معني، بتطوير مجتمعاتنا، وأنه يسهم عن عمد في حرف مسارات التنمية المستقلة لبلداننا، ولا يتردد عن تشجيع التطرف، ومد يد العون له، متى ما خدم مشاريع التفتيت في بلداننا.
كان المؤمل، أن تسهم التحولات الأخيرة، في تحرير المواطن من الخوف، فيصبح قوة مؤثرة في مسار الأحداث، لكن حرف الحركة الشبابية عن توجهاتها الأصلية وأهدافها النبيلة، أدى لنتائج كارثية. ولا شك، أن التجريف السياسي التي شهدته معظم بلدان “الربيع العربي”، بالعقود الأخيرة، أدى لاختطاف ثمار الحراك السياسي، والقفز إلى السلطة، من قبل قوى سياسية، لم يكن دورها أساسياً في الحراك لحظة انطلاقة.
لكن التطور نحو الأفضل قادم لا محالة، تفرضه قوانين التاريخ. لقد أدركت دول المنطقة حتمية مشاركة مواطنيها في صناعة القرار، وأضحى مطلب قيام دولة القانون، مسلمة رئيسة ضمن مطالب الإصلاح السياسي بالبلدان العربية. كما أن احتمال انبثاق نظام عربي رسمي قوي، هو أمر لا يمكن إغفاله. ووجودنا حقيقة موضوعية، تؤكدها لغتنا المشتركة، والهموم والتحديات والآمال الواحدة. وقد استثمر الجيل الجديد التقنيات العلمية ووسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل. لقد بتنا أكثر قرباً ومعرفة بهمومنا وتحدياتنا.
أمة القرآن، مهما زلت بها المقادير، فستنهض مجدداً، ولن تكون التدخلات الخارجية، سوى محطات عابرة، ما كان لها أن تأخذ مكانها، لولا إخفاقاتنا في التنمية وهشاشة مكوناتنا البنيوية، وضعف هياكلنا الاجتماعية، وجميعها ليست عناصر أصيلة في التاريخ، بل حالات محرضة على الفعل، من ركامها يبزغ الفرح، كما من رحم الألم يولد الأمل الحقيقي.

اشكرك درة على الاخبار

والمتابعه المستمرة 

تحياتي

العفوا هلا وغلا فيك اختي مها
شكرا لك تسلمي الله يسعدك