دلال المحبوب وصدّه وهجره:
الدلال، لغة، يعني مخالفة الفتاة للحبيب، وتجرؤها عليه بلطف، وتمنُّعها.
ولنضرب بعض الأمثلة على تدلُّل الفتاة العربيّة،
وهي أمثلة مستقاة من أشعار عدد من العشّاق المشاهير.
فمحبوبة امرؤ القيس تتظاهر بعدم تصديق كلامه وتوجّه إليه أسئلة تهكمية لتسخر منه:
إذا قلتُ: يا لمياءُ، حبُّكِ قاتلي
تقولُ: وكمْ مِنْ عاشقٍ قتلَ الحبَُ؟
وترفض بثينة جميل طلباته بعناد وتنصرف دون أن تأبه له:
إذا قلتُ: ما بي، يا بثينةُ، قاتــلي
مِن الحبِّ، قالتْ: ثابتٌ ويزيدُ
وإنْ قلتُ: ردّي بعضَ عقلي أعش بهِ
تولتْ وقالت: ذاكَ منكَ بعيدُ
فلا أنا مردودٌ بما جـئتُ طالـبـاً
ولا حبُّها، فيما يبيدُ، يبيــدُ
ومحبوبة الأمير الشاعر أبي فراس الحمداني، تنكره وهي تعرفه وتتجاهله بتعنُّت،
وهو رجل طبّقت شهرتُه الآفاق ويعرفه القاصي والداني :
تسائلُني: مَن أنتَ؟ وهي عليمةٌ
وهل بـفتىً مثلي على حالِهِ نُكرُ
فقلتُ لها: لو شئتِ لم تتعـنتي
ولمْ تسألي عنّي، وعندكِ بي خُبرُ
فقالتْ: لقد أزرى بكَ الدهرُ بعدنا
فقلتُ: معاذَ اللهِ، بل أنتِ لا الدهرُ
هذه أمثلة على تدلُّل الفتاة العربيّة، ومخالفتها للمحبوب، وتجرؤها علية بلطف، وتمنُّعها.
ولعلّ هذا الدلال ناتج عن عزّة نفسها، أو عن يقينها أنّ الدلال جزء من لعبة الحبّ،
تزيد المحبّ تعلّقاً بالحبيبة، وجرياً وراءها، طبقاً لقاعدة " كلُّ ممنوع متبوع"
التي يشرحها الشاعر الأحوص ببيت من الشعر:
وزادني كلفاً في الحبِّ أنْ مُنعتْ
أحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا
ويفسّر امرؤ القيس دلال حبيبته بغرورها الناتج من تمكّن حبّها من قلبه:
أفاطمُ مهلاً بعضَ هذا التدلُّل
وإنْ كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي
أغرَّكِ منّي أنَّ حـبّك قاتلي
وأنـَّّكِ مـهما تأمري القلـبَ يفعلِ
فالحبيب يعرف ما له من مكانة مكينة في قلب المحبّ، ويعلم أنّ تدلّله لا ينال من هذه المكانة،
بل قد يزيدها سموّاً وثباتاً، فيتدلّل أكثر وأكثر، كما يقول البهاء زهير:
عرفَ الحبيبُ مكانهُ فتدلّلا
وقنعتُ منهُ بموعدٍ فتعللا
وكثير من العشّاق يستلذون دلال المحبوب، كما هو الحال مع المتنبي القائل:
وأرى تدلّلك الكثيرَ محبباً
وأرى قليلَ تدلُّلٍ مملولا
وهذا الدلال هو الذي يمنع الفتاة من الاستجابة إلى رغبات الحبيب وطلباته،
كما يفسّر لنا الأمر شيخ العشّاق الشريف الرضي:
هيفاءُ إنْ قالَ الشبابُ لها: انهضي
قالتْ روادفُها: اقعدي وتمهلي
وإذا سألتُ الوصلَ، قال جمالُهـا:
جودي، وقالَ دلالُها: لا تفعلي
ويفعل العاشق كلَّ ما في وسعه لإرضاء الحبيبة، فلا يصل مبتغاه.
يمحضها خالص الود ليتقرّب إليها ويقترب منها، ولكنّها تبتعد عنه،
فيصرخ كما صرخ أبو عمارة المكي (الملقّب بشمروخ):
هل تعلمينَ وراءَ الحبِّ منزلةً
تُدني إليكِ، فإنَّ الحبَّ أقصاني
وتتقد عاطفة العاشق حتّى ينقدح منها الشعر فيقول أجمله وأطوله في صدق محبّته ولهفته إرضاء لحبيبته،
ولكنّها تتمادى في دلالها ولا تُعيره بالاً، كما كان حال جميل بثينة:
وقد قلتُ في حبّي لكم وصبابتي
محاســنَ شعرٍ ذِكرهنَّ يطولُ
فإنْ لم ينلْ قولي رضاكِ فعلّمي
هبوبَ الصَّبا، يا بثنُ، كيفَ أقولُ
وتتمادى الحبيبة في دلالها فتأتي بطلبات غير معقولة وتضع شروطاً غير منطقية،
فيقبل العاشق بما تفرضه عليه، ويصدع لما تأمر به، ويفعل كما تشاء.
فهذا الأمير أبو فراس الحمداني أجاب حبيبته بما يُرضي غرورها
عندما سألته أن يعرّفها بنفسه، ولكنها تمادت في دلالها بما يثير غيرته:
فقلتُ، كما شاءتْ وشاءَ لها الهوى: قتيلُكِ، قالتْ: أيهم، فهمُ كُثرُ؟
وهذا المؤمّل المحاربيّ، يقبل بقلب الحقائق وتبادل الأدوار، فيعتذر
عندما تُخطئ الحبيبة ويعودها عندما يمرض هو:
إذا مرضنا أتيناكم نزوركمُ
وتذنبون فنأتيكم فنعتذرُ
ويلخِّص لنا العباس بن الأحنف تجربته في العشق ويقدمها نصيحة بالمجّان:
تحمّلْ عظيمَ الذنبِ ممَّن تحبُهُ
وإنْ كنتَ مظلوماً فقلْ: أنا ظالمُ
ولكن قوة احتمال العباس بن الأحنف نفسه تتردّى بفعل ما يعانيه من مذلّة،
فيتمنّى لو أنّه لم يُخلق بتاتاً، ولم يوجد الحبُ مطلقاً:
أباحَ حمى قلبي الهوى فأذلَّهُ
ألا ليتَ لم أُخلَقْ ولمْ يُخلقِ الحبُّ
فالعربيّ تتنازعه عاطفتان قويتان: كرامتُه وحبُّه، وهما أحياناً على طرفَي نقيض،
فالحبّ والذلّ صنوان، والهوى والهوان من أصل لغوي واحد، كما يخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
نونُ الهوانِ من الهوى مسروقةٌ
فإذا هويتَ فقد لقيتَ هوانا
وقد أكد لنا أبو فراس الحمداني أنّ عذاب الصدّ والهجر يستنفد صبر الإنسان
وينال من عزّة نفسه ويجرح كرامته، ويؤدّي، لا محالة، إلى شعوره بالذلّ والهوان:
وتهلكُ بينَ الهزلِ والجدِّ مهجةٌ
إذا ما عداها البينُ عذّبها الهجرُ
فأيقنتُ أنْ لا عزَّ بعدي لعاشقٍ
وأنَّ يدي مما علقتُ به صفـرُ
وقد تأكَّد للباحثين أن الهوى يجلب الذل والهوان للعاشق مهما كانت مكانته، حتى قال أحد الشعراء:
مساكينُ أهلُ العشقِ حتّى قبورهم
عليها ترابُ الذلِّ بينَ المقابرِ
وعلى الرغم من خضوع العاشق ومذلّته، فإنّ دلال الحبيب
وممانعته ورفضه قد تتحوّل في ظروف معينة إلى صدّ وهجر،
ولا يبقى للعاشق سوى الشكوى، كما اشتكى البحتريّ:
لجَّ هذا الحبيبُ في هجرانِه
ومضى والصدودُ أكبرُ شانِه
ويضيق الحبيب بصدود المحبوب، ويؤلمه الهجر، ويحرق كبده،
ويسلب لبه، كما يؤكِّد لنا ذلك فتى مخزوم اللعوب عمر بن أبي ربيعة،
مُردفاً تأكيده بالقَسَم بكتاب الله:
مَن رسولي إلى الثريا فإنّي
ضقت ذرعاً بهجرها، والكتابِ
سلبتني مَجّاجةُ المسكِ عقلي
فسلوها: ماذا أحلَّ اغتصابي؟
وعندما يشكو العاشق الصدّ والجفاء والهجران تأتيه النصيحة جاهزة من العشّاق المُجرِّبين:
إنْ شكوتَ الهوى فما أنتَ منّا
احمل الصدّ والجفا، يا مُعَنَّى!
وينصحونه بالصبر على صدود الحبيب، ويمنّونه
بالوصال بعد الهجر، فطباع الإنسان تتغيَّر بتغيُّر الظروف والأحوال:
واصبرْ على هجرِ الحبيبِ فربّما
عادَ الوصالُ، وللهوى أخلاقُويصبر العاشق المسكين، ويصبر حتّى ينفذ صبره، ويمضُّ
في نفسه الشعور بالمذلّة، فيُصاب بالاكتئاب، ويودي سهد الليالي بصحته،
فيلجأ إلى الطبيب، لعلّ الطبّ يفيده. ولكنّ الطبيب يؤكِّد له أنّ الحبّ داء لا ينفع معه دواء،
كما حصل لعلي بن الجهم:
وقلتُ: أيا طبيبُ! الهجرُ دائي
وقلبي، يا طبيبُ! هو الكئيبُ
فحرّك رأسَهُ عجباً لقولــي
وقال: الحبُّ ليسَ لهُ طبيـبُ
وإذا كان الحبّ لا ينفع معه طبّ، فإنّه لا ينفع معه سحر كذلك.
فلا توجد تميمة ولا رقية تقي من الحبّ، كما تقول زينت بنت فروة المُريّة التي وقعت في حبّ ابن عم لها:
ولو أنَّ أهلي يعلمونَ تميمةً
من الحبّ تُشفي، قلدوني التمائما إن العشّاق العرب يعرفون جيداً أنَّ الطبَّ لا يجدي،
وأنَّ دواء الحبِّ الوحيد هو الوصال، كما يقول ابن زيدون:
لو شئتِ ما عذّبتِ مهجةَ عاشقٍ
مُسـتعذِبٍ في حبّكِ التعـذيبا
ولزرتهِ بل عدتهِ، إنَّ الــهوى
مرضٌ يكونُ لهُ الوصالُ طبيبا[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]