ابني البكر ـ كتابي العدد "7" بين أيديكم (4)

أحبتي في رياض همسات المحبة
أترككم في نزهة في رحاب القرآن الكريم،
محتوى الفصل الرابع من كتابي ( العدد 7)
آملاً أن ينال إعجابكم ...
مع وافر تحيتي ومحبتي لكم جميعاً
.... أخوكم محمود فالح مهيدات ...
*****************

الفصل الرابع
في رحاب سور كريمات
- سورة الفاتحة
- سورة يوسف
- سورة الكهف
- سورة النور

في رحاب سور كريمات
في رحاب أم الكتاب
سورة الفاتحة هي أم الكتاب، وهي السبع المثاني، وآياتها سبع. قال تعالى: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾. وقال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾.

معاني سورة الفاتحة: الفاتحة سورة عظيمة، فهي تقرأ في كل صلاة فرضها رب العالمين، أو سنها الصادق الأمين  ، إذ تقرأ (17) مرة في اليوم والليلة في الصلوات المفروضة، كما تقرأ (17) مرة في السنن أيضاً. أما المعاني السامية لهذه السورة العظيمة فهي سبعة:
1. تعرف إحسان الله تعالى: وذلك لقوله تبارك وتعالى ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾. وفي هاتين الآيتين ثلاثة أمور هامة: الأول، قصر الحمد على الله تبارك وتعالى، فالله تعالى هو مصدر كل نعمة، فلا يحمد على شيء سواه.. والثاني ، إثبات بأن الجنس البشري وحدة واحدة، وأسرة واحدة، ورب هذه الأسرة الواحدة الواسعة (ولله المثل الأعلى ) هو الله سبحانه وتعالـى " رب العالمين" ، فلا مجال إطلاقاً للتمييز العرقي واللوني والطبقي والإقليمية الضيقة .. وأما الأمر الثالث، فصفتان من أخص صفات الخالق جلّ وعلا " الرحمن الرحيم" ، فالله تعالى رب العالمين، إله رحمة وإحسان بعباده، وذلك طمأنينة لقلوب العباد يغرسها الإسلام في قلوب المصلين ليعلموا أن الله ربهم أجمعين، وأن ربوبيته ربوبية رحمة ورأفة بهم، لا ربوبية ظلم وجبروت.
2. الوعد والوعيد : وعد رحمة ومغفرة للمؤمنين ولا يخلف الله وعده، ووعيد عذاب للكافرين والله شديد العقاب، ويستدل على ذلك بقوله جل وعز: "مالك يوم الدين" ، أي أن الله سبحانه وتعالى يتصرف بأمور يوم القيامة كما يشاء لأنه هو المالك له ذو السلطان المجيد.
3. التوحيد والعبادة: أي أن الله واحد أحد فرد صمد، ولا عبودية إلا له سبحانه وتعالى، قال تبارك اسمه: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
4. الإستقامة والثبات: إذ يطلب المؤمن من الله عز وجل الإستقامة والثبات على الطاعة، والسير على طريق الحق القويم الذي لا اعوجاج فيه، لقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾.
5. الاقتداء بالمثل الصالحة: إذ يطلب المؤمن من ربه أن يهديه طريق الذين أنعم عليهم بالإيمان والإحسان، للاقتداء بهم للنجاة بذلك في الدارين، الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ .
6. اجتناب سبل الضلال: إذ يطلب المؤمن من ربه أن يجنبه سبل الغواية والضلال، طريق من غضب الله عليهم وضلوا سواء السبيل، لقوله تبارك وتعالى: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾ . فالمغضوب عليهم هم اليهود، وأما الضالون فهم النصارى، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله  عن قوله تعالى: "غير المغضـوب عليهم" قال: (هـم اليهود) ، وعن قوله تعالى: وَلا الضَّالِّينَ قال: (هم النصارى). وقال تعالى عن اليهود: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل ِ﴾. وقال سبحانه وتعالى عن النصـارى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾.
7. الدعوة للجماعة: بالرغم من أن المصلي قد يصلي بمفرده، إلا أنه يدعو الله لكل المسلمين في صلاته، وفي ذلك دعوة صريحة للوحدة الشاملة والتعاون الوثيق والمحبة وحب الخير لأفراد المجتمع الإسلامي الواحد، ويستدل على ذلك بقوله مولانا جل في علاه: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾.
في رحاب سورة يوسف
سورة يوسف، السورة رقم (12) من القرآن الكريم، فيها عرض مفصل لقصة نبي الله يوسف بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم وعلى نبي الهدى والرحمة السلام، حيث يبين الله تبارك وتعالى لنبيه محمد  ما تعرض له أخ له كريم سبقه في النبوة، من أنواع المحن والابتلاءات.
تبدأ القصة بالرؤيا وتنتهي بالتأويل، وبين الرؤيا والتأويل من الأحداث الجسام ما يعجز المرء عن حمله إلا الأنبياء الذين هم أشد الناس ابتلاءً.
وفي هذه القصة تسلية لرسول الله ، خاصة وأن نزول هذه السورة كان في فترة حرجة جداً كانت تمر بها براعم الأمة الإسلامية الجديدة: بين عام الحزن وبين بيعتي العقبة الأولى والثانية، إلى أن كان الفرج من الله للمسلمين بالهجرة إلـى المدينة المنورة. فكانت قصة يوسف عليه السلام تسلية وترويحاً لرسول الله ، حيث أن يوسف عليه السلام افتقد فجأة الحضن الحاني، حضن والده يعقوب، إلى الجُب فمصر فالرّق فالمحنة فالسجن، إلى أن منَّ الله عليه بالتمكين والسلطان.. فكان يوسف عليه السلام هو الشخصية الرئيسة في القصة، رغم تعدد أحداثها ووقائعها وفصولها وشخصياتها.
1. رؤيا عزيز مصر: قال تبارك وتعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾.. رأى الملك هذه الرؤيا فهالته وأفزعته، فطلب إلى العرافين والكهنة أن يفتوه في تأويلها ، فقالوا: (أضغاثُ أحلامٍ)، وما يدرون بأن هذه الرؤيا أرادها الله تبارك وتعالى أن تكون سبب إخراج نبيه يوسف عليه السلام من السجن معززاً مكرماً.
2. تأويل الرؤيا: أما تأويل الرؤيا، فكما أولها نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكما وردت في كتاب الله تعالى، قال تبارك اسمه: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾.. أي يأتيكم في سبع سنين متواليات المطر والخصب والخير، فادخروا ما حصلتم عليه من الغلة خلال هذه السنين السبع شريطة أن تبقوه في سنبلة ليكون أدوم وأبعد عن الفساد، إلا المقدار الذي تستنفدونه في طعامكم... وأما السبع العجاف، فهن سبع سنين من القحط متواليات يأتين بعد السبع الأولى، سنيّ المطر والخصب، وهي أيضاً السنبلات اليابسات كما وصفت سنوات الخصب بسبع سنبلات خضر، وفي هذه السنين المجدبة ستستنفدون ما جمعتم خلال السنوات السبع الأولى، إلا ما كنتم قد خزنتموه. وبعد هذه السنين المجدبة يأتي عام فيه الغيث والخصب وتغل البلاد.
3. براءة يوسف عليه السلام: هناك سبع شهادات أرادها رب العزة لبراءة نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام من محنته مع زوجة عزيز مصر، وكل هذه الشهادات وردت في كتاب الله الكريم، وهي:
أ. شهادة رب العالمين: ولله تعالى في ذلك أقوال أربعة هي:
(1) قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ ، إذ يخبرنا الله تعالى بأنه مكّن ليوسف في الأرض إذ أسكنه أرض مصر، كما علمه تأويل الأحاديث (الرؤيا) ، وأن الله لا يغلبه أحد في أي أمر من الأمور، فهو الغالب لما سواه، وأمره نافذ فلا يُمنع ولا يُرد، فإذا أراد الله أمراً فإنما يقول له (كـن) فيكون، طاعة وانقياداً وتلبية لأمر الله تبارك وتعالى.
(2) وقال تعالــى: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ، أي عندما بلغ يوسف عليه السلام أشده (وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ يوسف فيها أشده، فقد وردت آراء مختلفة في ذلك، وعلى أيِّ حال، فهي تتراوح بين الثامنة عشرة والأربعين، والله تعالى أعلـم) آتاه الله تعالى النبوة، وأصطفاه لرسالته، لأنه كان محسناً في عمله مطيعاً لله الواحد الأحد سبحانه وتعالى.
(3) وقال أيضـاً: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ ، أي أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يصرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام، فأراه برهانه، فصرفهما عنه، لأنه عليه الصلاة والسلام من عباد الله الأبرار الأوفياء الأنقياء الذين استخلصهم رب العزة واصطفاهم من خلقه ليحمّلهم رسالاته للبشرية لعبادة الله الواحد الديان. وبما أن الله تعالى قد صرف السوء والفحشاء عن نبيه يوسف، فإن هذا يعني بأنه عليه السلام ثابت صابر متسلح بإيمانه بالله عز وجل، بينما السوء والفحشاء يتقدمان نحوه، لذلك لم يقل الله (لنصرفه عن السوء والفحشاء) ، بل قال سبحانه: ﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾... ومن موقع القوة والعصمة والثقة بالله ثم الثقة بالنفس والثبات على العقيدة، توجه يوسف بقلب المؤمن إلى الركن الركين، فخاطب الله قائلاً : ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.
(4) وقال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
ب. شهادة إبليس: وله موقفان ذكرهما الله تعالى في كتابه الكريم:
(1) قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ، أي أن إبليس توعد بني آدم بالغواية وتزيين المنكرات لهم، إلا أنه عاد واستثنى عباد الله المخلصين، ونبي الله يوسف من هؤلاء لأن الله تبارك وتعالى قال فيه: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ ..
(2) وقال تبارك وتعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ﴾ ، وهنا لا بد لي من إيضاح الفرق بين (المخلِصين) بكسر اللام، و (المخلَصين) بفتح اللام: فالأولى بالكسر، تعني من أخلص عمله لله تعالى؛ وأما الثانية بالفتح، فتعني من اصطفاه الله تعالى واستخلصه لحمل رسالة وتبليغ دعوة إلهية.. الأولى اسم فاعل، والثانية اسم مفعول.
جـ. شهادة الطفل: قال تبارك وتعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ ... وهذا دليل قاطع بأن يوسف عليه السلام كان في وضع إدبار وهرب نحو الباب، بينما زوجة العزيز كانت في وضع إقبال ومتابعة ليوسف لإرغامه على العودة، وهذه فكرة محقق بارع ألهمها الله تعالى إلى ذلك الطفل وأنطقه في مهده ليكون شاهد حق في براءة نبي الله يوسف عليه السلام.
د. شهادة القميص: حيث قُدّ القميص من دُبُرٍ، ليثبت للملأ بأن يوسف عليه السلام كان مدبراً، بينما أقبلت زوجة العزيز عليه تجتذبه نحوها تريده لمواطأتها فقدّت قميصه، قال تعالى واصفا هذا المشهد: ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ﴾.
ويحضرني هنا أن أبيِّن الأدوار التي قام بها قميص يوسف بمشيئة الله تبارك وتعالى، فقد لعب القميص أدواراً ثلاثة: الأول، دور شاهد براءة إذ شهد في قضية يوسف الأولى حيث برأ فيها الذئب من دم يوسف عليه السلام، إذ أن يعقوب عليه السلام، بعد أن جاءه أولاده بدم كذب على قميص يوسف وأدَّعوا بأن الذئب قد أكله، أخذ يتفحص القميص ويقول: ما أرحم هذا الذئب، أكل ابني ولم يترك في قميصه أثراً لمخلب.. ومن هنا شهد القميص ببراءة الذئب وأثبت كيد الأخوة لأخيهم يوسف عليه السلام... والدور الثاني، فدور شاهد براءة أيضاً، إذ شهد ببراءة يوسف عليه السلام من محنته مع زليخاء زوجة عزيز مصر... وأما الدور الثالث، فكان دور إبراء وشفاء، فما أن ألقي القميص على وجه يعقوب عليه السلام، وكان يعقوب قد أبيضت عيناه من شدة الحزن على ابنه يوسف، حتى عاد البصر إلى عينيه بإذن الله تبارك وتعالى، قال تبارك اسمه: ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
هـ. شهادة العزيز: بعد أن أنطق الله تبارك وتعالى الطفل في مهده وشهد ببراءة يوسف عليه السلام بدليل قدِّ القميص من دُبُر، التفت العزيز إلى يوسف وطلب إليه تجاهل الأمر ونسيانه وعدم التحدث به، كما طلب إلى زوجته الاستغفار لذنبها لأنها خاطئة، قال تبارك وتعالى مبيناً هذا الحوار على لسان العزيز: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ ﴾.
و. شهادة النسوة: بعد أن سأل العزيز النسوة اللواتي قطعن أيديهن عندما رأين يوسف عليه السلام، أجبنه قائلات: " ما عَلِمنَا عَلَيهِ مِنْ سوءٍ "، قال تعــالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾.
ز. شهادة امرأة العزيز : ولها موقفان:
الأول: عندما بدأت النسوة يرددن بأن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، وقد عشقته وشغفها حباً، علمت زوجة العزيز بذلك فدعتهن وأعدت لهن مجلساً وأعطت كل واحدة منهن شيئاً يقطع بسكين، ثم أتت لكل واحدة منهن سكيناً، ثم أمرت يوسف بالظهور إليهن، فعندما شاهدنه قطعن أيديهن إذ بهرهن حسنه فنسين الألم الناتج عن قطع الأيدي، فقالت عندها زليخـاء (زوجة العزيز): ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾.
الثاني: بعد أن اعترفت النسوة بأنهن لم يعلمن على يوسف من سوء، أراد الله تعالى للحق أن يظهر وينبلج على لسان المدعية نفسها، فإذا بزليخاء تنطلق قائلة: ﴿ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
راود ومشتقاتها
أمّا الكلمة (راود) ومشتقاتها، فقد وردت في سورة يوسف سبع مرات: ست منها تتعلق بقضية يوسف عليه السلام مع زوجة العزيز التي نجاه الله تعالى بفضله وكرمه من شيطان غوايتها، وقد وردت في الآيات الكريمات التاليات:
- قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ﴾.
- وقال تعالى : ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.
- قال تعالى: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾.
- وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾.
- وقال مولانا: ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ﴾.
- وقال تعالى: ﴿ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾.
وأما السابعة، فتتعلق بإخوة يوسف عليه السلام بعد أن طلب منهم أخوهم يوسف أن يعودوا ويحضروا معهم أخاهم (بنيامين) وبعد ذلك يمير لهم، فقالوا: ﴿ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾.

تلخيص لما حدث لنبي الله يوسف
أما ما حدث لنبي الله يوسف عليه السلام، كما قصها لنا رب العزة في كتابه الكريم، فيلخص في سبع حوادث رئيسة هي:
1. الرؤيــــا: قال تعالــى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
وقد قال المفسرون في تعبير هذه الرؤيا، بأن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوة يوسف، وكانوا أحد عشر رجلاً سواه، والشمس والقمر كناية عن أمه وأبيه. ولما قص يوسف رؤياه على أبيه يعقوب عليه السلام، أبلغه أبوه أن يكتم الأمر على إخوته لئلا يدبروا له مكيدة.
2. محنته مع إخوته: قال تبارك وتعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾... إلى أن أودعوه غيابة الجب، ثم عادوا في المساء إلى أبيهم يبكون ويبلغوه أن الذئب قد أكل أخاهم، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾.
3. في بيت العزيز ومحنته مع زليخاء: قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَاالْمُخْلَصِينَ ﴾. أمر العزيز إمرأته لتكرم مثوى يوسف عليه السلام، وقد توسم فيه الخير، علّ يوسف ينفعهم أو يتخذوه ولداًَ – وكان العزيز ليس له أولاد – أمرها بإكرام مثواه، والمثوى هو مكان الإقامة، فإذا كان الأمر بإكرام المكان، فإن إكرام صاحب المكان من باب أولى، وهذا يعني أنها مأمورة بإكرام صاحب المكان وهو يوسف عليه السلام.. ولما بلغ يوسف أشده، آتاه الله النبوة لأنه من المحسنين.. ومن ثم، وبعد أن ظهرت على يوسف علامات الشباب الغض النضر، ولما يكسو هذا الشباب من الجمال الباهر والحسن الساحر، إذ كان يوسف عليه السلام شديد الحسن والبهاء، وقد قال فيه رسول الله  : ((رأيت يوسف ليلة المعراج فإذا هو قد أعطي شطر الحسن))، أي أعطي نصف الجمال، .. فتحركت كوامن الشهوة لدى امرأة العزيز، فراودت يوسف عن نفسه ودعته إلى نفسها بعد أن غلقت الأبواب، فامتنع يوسف أشد الامتناع، إذ لا يليق أن يقابل بعلها الذي أكرم مثواه بالفاحشة في أهله، لكنها همت به تريده لنفسها، ولولا فضل الله عليه بأن أراه برهانه وهو العصمة، لهمّ بها، فكلمة (لولا) أداة امتناع لوجود، امتنع الهم لوجود البرهان، وفي هذه الآية تقديم وتأخير: أي (لولا أن رأى برهان ربه لهم بها)، ومثل ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ، ولحكمة الله ورحمته صرف سبحانه وتعالى عن يوسف السوء والفحشاء لأنه من عباد الله المخلَصين.
4. دخوله السجن: بعد أن كادت امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، وأصرت على أن يفعل ما تأمره به من منكر وفحشاء، توجه إلى رافع السماء بلا عمد فطلب إليه أن يصرف عنه كيدهن، وصرح بأن دخوله السجن أحب إليه من أن يقع في معصية الله تبارك وتعالى بتلبية دعوة زليخاء والنسوة، فاستجاب الله لنداء عبده ونبيه، فدخل يوسف السجن ومكث فيه بضع سنين، وبضع تعني في اللغة من ثلاث إلى تسع، قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ .
5. البراءة والخروج من السجن: قال تبارك وتعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ ... بعد أن رأى العزيز في منامه الرؤيا التي أسلفت الحديث عنها، وبعد أن أوّل يوسف عليه السلام الرؤيا كما وردت في كتاب الله، أصدر العزيز أمره بأن يفرج عن يوسف ويؤتى به إليه ليجعله من خاصته وأهل مشورته، وبعد أن كلمه الملك وعرف فضله وحسن رأيه، وما هو عليه من أخلاق فاضلة وخلق متكامل، أبلغه الملك بأنه أصبح الآن لديه ذا مكانة مرموقة وأمانة عالية.
6. السلطان : قال تعالــــى : ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ..وقال أيضاً :  رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾... يتضح لنا من هذه الآيات الكريمات أن الله سبحانه وتعالى قد آتى يوسف عليه السلام الملك والسلطان فقد سخرّ الله تعالى عزيز مصر كي يسلم يوسف منصب وزارة المالية، فبعد ضيق السجن إلى العز والجاه، نقلة أرادها الله تبارك وتعالى جزاء لنبيه يوسف، لأنه عبد محسن صالح صابر طائع عابد لله عز وجل.. أما طلب يوسف من العزيز الولاية والحكم، فليس من باب تزكية النفس، إنما رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان، وإشعاراً بحنكته ومقدرته على الحكم.
7. لقاؤه مع أهله: وبعد أربعين سنة من الفراق المرّ، شاء رب العزة أن يجمع شمل نبيه مع أهله الذين طال شوقهم إليه كما طال شوقه إليهم:
وقَدْ يَجمعُ اللهُ الشَّتيتيْنِ بَعدَمَـا // يَظُنانِ كُلَّ الظَّنِ أَلاَّ تلاقِيـَا
قال مولانا تبارك وتعالى: ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾.
الدروس المستلهمة من قصة يوسف عليه السلام
قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ ، وقال أيضاً: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ... ﴾ . وبعد أن عرفنا موجزاً لمجريات حوادث قصة سيدنا يوسف عليه السلام بكامل مراحلها ومختلف فصولها وأبوابها، نخلص إلى دروس وعبر يمكن استخلاصها من هذه القصة، وهي سبعة دروس:
1. الحسد وباء عظيم مصدره الشيطان: إن الحسد مرض اجتماعي خبيث، وهو من أرذل الخصال وأقبح الفعال التي قد تصيب الإنسان، لتعكّر الصفو وتكدّر الخاطر وتحرق النفس، إذ يبقى الحاسد في عذاب مستمر بسبب حسده للآخرين تحسراً على نعم أُسبغت عليهم. ولقد نهى الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم عن الحسد فقال: ﴿ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾. كما أن الله سبحانه وتعالى أمر بالاستعاذة من الحاسد فقـال: ﴿ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ﴾ .
ويكون الحسد أشد وطأة على النفس وأكثر وبالاً عليها عندما يكون موجهاً من أخ إلى أخيه، وهذا ما حدث لنبي الله يوسف عليه السلام حيث حسده إخوته لأمور كثيرة أهمها أثرته ومنزلته الخاصة عند أبيه، وكان يعقوب عليه السلام قد نبه ابنه يوسف بعدم إفضاء أمر رؤياه لإخوته خوفاً من المكيدة، وقد ربط يعقوب هذا الأمر بعداوة الشيطان للإنسان. وفعلاً، فقد زين الشيطان لإخوة يوسف الكيد له، إلى أن نفذوا مخططهم الذي رسمه لهم الشيطان بإلقاء يوسف في الجب كما مرَّ معنا في سياق القصة: ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾.
بناء عليه، ينبغي على الإنسان المؤمن أن يكون قانعاً بما آتاه الله تبارك وتعالى، وأن يسمو بنفسه وروحه عن الحسد انطلاقاً من حديث المصطفى  حيث قال: ((إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه)). ولله در الشاعر الذي قال:
للهِ دَرُّ الحَسَدِ ما أَعْدَلَهْ // بـَدأَ بِصَاحِبِهِ فَقَتلَـهْ
كما ينبغي على المسلم أن يكون حذراً من الشيطان وحبائله والتي يهدف منها الإيقاع بين الإخوة المسلمين بشتى الوسائل، والحسد وسيلة من الوسائل الشيطانية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
2. الثبات على العقيدة: ويتمثل ذلك بثبات يوسف عليه السلام أمام محنته مع زوجة العزيز، حيث رمى بعرض الحائط كل وسائل الإغراء، وثبت بعزم أكيد على مبدئه، وتسلح بالعقيدة الراسخة، فكان كالطود الأشم والصرح الشامخ لا يزعزعه شـيء، قال تعـــالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾.
3. الصـبـر: هو من أسمى الفضائل التي من الواجب أن يتحلى بها المسلم، فهو نفحة إيمانية روحية يتدرع بها المؤمن لمجابهة الامتحانات والمصائب ليتلقاها بالقبول والتسليم ليقينه التام بأنها من عند الله تبارك وتعالى، فالصبر سد منيع يفصل بين الحياة الروحية والمادية، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْ مِ الأُمُور ِ ﴾. وقد حث الإسلام على الصبر وامتدح الله تعالى الصابرين في كتابه الكريم في مواطن كثيرة، كما وعدهم مزيداً من الرحمة والأجر في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.. وقال أيضـاً: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾... وقال تبارك اسمه: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراًً ﴾... كما أن الله جل في علاه تعهد بعون الصابرين وتأييدهم فقال :﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ .
وقصة يوسف عليه السلام فيها بطلان من أبطال الصبر، فيعقوب عليه السلام، الذي صبر على فراق ولده وفلذة كبده وثمرة فؤاده مدة أربعين سنة؛ ويروى أن يعقوب عليه السلام سأل ذات يوم ملك الموت عليه السلام قائلاً: (يا ملك الموت، هل قبضت روح يوسف؟) فيقول له ملك الموت: (يا نبي الله لم أقبض روحه، وإن الله يقول لك يا يعقوب لن تموت حتى يجمعك الله بولدك يوسف)... فما كان من يعقوب عليه السلام إلا أن يتسلح بالصبر عدة المؤمنين العابدين الطائعين، ولذلـك قـال لأولاده الذين كـادوا لأخيهم: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾.
أما البطل الثاني، فهو يوسف بن يعقوب عليهما السلام، فقد صبر على حقد إخوته عليه وكيدهم له ومكرهم به، وصبر على فراق الأهل والأحبة. ويروى أن يوسف عليه السلام – بعد أن جمع الله شمله مع أهله – قال لأبيه يعقوب: (يا أبتِ، لِمَ أكثرتَ من الحزن عليّ حتى أبيضت عيناك، ألم تكن تعلم يا أبتاه بأن الله إن لم يجمعني بك في الدنيا فسوف يجمعني بك يوم القيامة؟) ، فقال له أبوه: (يا بني، إني أعلم ذلك، ولكنني كنت حزيناً عليك خوف أن تغير دين الإسلام فيفرق الله بيني وبينك يوم القيامة)... عملاقان عظيمان من عمالقة الصبر، ضربا لنا أروع مثـل فيه، شملهما الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾. .. وما من نبي من أنبياء الله تعالى إلا وأبتلي وصبر، وكان على رأسهم سيدنا محمد ، الذي علمنا الصبر وعلمنا اليقين.
4. الاعتصام بحبل الله واللجوء إليه في الملمات: وهذا ما قام به سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام أثناء محنته مع زليخاء والنسوة، حيث توجه إلى مالك الملك وقال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ﴾ ، فاستجاب الله تعالى لعبده الذي طرق بابه الذي لا يوصد ، طالباً منه العون والمدد، فحقق رغبته فصرف عنه كيد النسوة، وأدخل يوسف السجن – كما مرّ معنا في القصة.
5. الثقة بالله عز وجل: لقد كان يعقوب ويوسف عليهما السلام على درجة سامقة من الثقة بالله تبارك وتعالى، فهذا يعقوب يقول لبنيه: ﴿ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ، وقوله أيضاً: ﴿... إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ ، وقوله: ﴿.. ً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ ، وقوله: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ ، وقولـه: ﴿... وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾... هذا يعقوب، وأما يوسف، فتتمثل ثقته بالله تعالى باللجوء إليه عندما توجه إليه داعياً كي يصرف عنه كيد زليخاء والنسوة وتفضيله السجن على وقوعه في حبائلهن، وفي قوله أيضاً: ﴿ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .. ﴾.
6. الدعوة إلى الله حتى في أحلك الظروف وأقساها: الدعوة إلى الله سبيل كل مسلم مجتهد نشيط، ذلك السبيل القويم الذي خطه كل الأنبياء عليهم السلام، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ، وقال أيضــاً: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ ، وقال سبحانه: ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ﴾. وسيدنا يوسف عليه السلام قال كما قال غيره من إخوته الأنبياء عليهم السلام: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾. فهو عليه السلام لم تمنعه أحلك الظروف وأعصب الأوقات من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وهل هناك ما هو أشد حلكة من غياهب السجن؟! .. فبالرغم من ذلك السجن وما يعانيه السجين من إهانة وصغار، إلا أن يوسف عليه السلام لم يستسلم بل حمل لواء الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ويتضح لنا ذلك من دعوته إلى أصحابه في السجن كما وردت فــي الآيات الكريمات التاليـــــات: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
7. العفو عند المقدرة: العفو من شيم الكرام، وهو ما حثت عليه جميع الأديان السماوية المطهرة. فبالرغم من كيد إخوة يوسف له وإلقائه في الجب، حتى جرّ عليه هذا الأمر ويلات كثيرة: فمن الجب إلى سوق النخاسة ليباع بثمن بخس، إلى الرق وقسوته، فكيد النسوة فالسجن ووحشته، وما رافق ذلك كله من الاغتراب عن الأهل... كل هذه الويلات جرّها عليه حسد إخوته وإتباعهم لخطوات الشيطان بالكيد لأخيهم... ولكن، عندما جمع الله بين يوسف وإخوته، وكان يوسف قادراً على الاقتصاص منهم لما فعلوه به، إلا أنه فتح لهم قلبه الكبير لينطلق منه العفو الواسع ليشمل به إخوته الذين قسوا عليه فقال لهم: ﴿ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ .. وبمثل هذا الموقف العظيم، عامل خاتم الأنبياء والمرسلين  قومه عندما دخل مكة فاتحاً رغم ما لقيه منهم من ظلم وعنت وإساءة وطرد وتغريب، فقال لهـم: (( ماذا تظنون إني فاعل بكم؟))، قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: لا تثريب عليكــم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
في رحاب سورة الكهف
سورة الكهف، السورة رقم (18) من كتاب الله العظيم، لها فضل كبير، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين ، فتغشته سحابة فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها. فلما أصبح أتى رسول الله َ فذكر ذلك له، فقال عليه السلام: ((تلك السكينة تنزلت للقرآن))، متفق عليه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله  قال: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال))، وفي رواية: ((من آخر سورة الكهف )) ، رواه مسلم.
كما يستحسن قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة، لما جاء في سند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال: أن رسول الله  قال: ((من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء الله له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق)). وعن أبي سعيد الخدري عن النبي  قال: ((من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) ، وفي نسخة (( أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق)).
إن العنصر الأساس في أسلوب هذه السورة هو الأسلوب القصصي، فقد احتوت هذه السورة على عدة قصص، قصها رب العالمين بتعبير قرآني رائع. فقد اشتملت على سبعة أمور رئيسة هي:
1. تصحيح العقيدة وإيضاح المنهج القويم للفكر والقيم.
2. قصة أصحاب الكهف.
3. قصة آدم وإبليس.
4. قصة موسى مع الرجل الصالح (الخضر) عليهما السلام.
5. قصة ذي القرنين.
6. توجيهات علوية إلى رسول الله  .
7. بعض مشاهد يوم القيامة.
أولاً. تصحيح العقيدة وإيضاح المنهج القويم للفكر والقيم: وهذا هو المحور الموضوعي لسورة الكهف، حيث أنه حجر الزاوية ومحور الارتكاز والعمود الفقري في عصب السورة، فكل الحوادث فيها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة السليمة والمنهج القويم. فتصحيح العقيدة يبرز لنا من خلال بداية السورة بقوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ﴾. كما تبين لنا تصحيح العقيدة أيضاً من خلال الآية التي اختتمت بها هذه السورة في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾.
أما تصحيح منهج الفكر، فيعني توجيه الإنسان بأن لا يتحدث ولا يحكم إلا فيما يعلم، وما يخرج عن نطاق علمه ومعرفته يرده إلى عالم الغيب والشهادة، ويتضح لنا ذلك من قوله تعالى: ﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ﴾ ، ومـن قول الفتية أصحاب الكهـــف: ﴿ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ ، ومن قولهم أيضاً عندما تساءلوا عن المدة التي مكثوها في نومهم: ﴿... قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ... ﴾ ، حيث ردوا علم ذلك إلى الله تبارك وتعالى. وفي أحداث القصة يوجه الله تعالى نبيه  بردّ علم مدة نومهم وعددهم إلى الله تعالى فيقول سبحانه: ﴿ قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ... ﴾. وقوله أيضاً: ﴿.. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾.
أما تصحيح القيم، فقد ربط الله تعالى القيم بالإيمان، وزانها بميزان العقيدة الدقيق، إذ أبان الله لنا بأن ما على الأرض من زينة مصيره إلى زوال واندثار، قال تعالى: ﴿ِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً﴾ ، كما تبرز عملية تصحيح القيم من خلال قصة الرجلين والجنتين، إذ أبان الله بأن الرجل صاحب الجنتين اللتين آتت كل واحدة منهما أكلها بإذن ربها، قد اعتراه الغرور والكفر والبطر، حتى أنه ظن أن هاتين الجنتين لن تزولا أبداً، فهذا الرجل يمثل جانباً من جوانب القيم الإنسانية التي تركن إلى الدنيا وتغتر بمفاتنها ومظاهرها وزيفها. وأما الرجل الثاني، فهو الفقير الذي لا يملك المال والثروة والعقارات والبساتين والحدائق الغناء، لكنه غني النفس عظيم الاعتزاز والفخر بالعقيدة القويمة والإيمان الثابت الراسخ والعمل الصالح الذي سينجو به عند الله تبارك وتعالى، وهذا الرجل يمثل جانباً من جوانب القيم الإنسانية التي لا تقيم لمظاهر الدنيا وزناً ولا تغتر بها أبداً، بل تتطلع بشوق إلى الآخرة فتعد لذلك العدة من الطاعة لله تعالى والأعمال الصالحة. وقد بين الله تعالى الحوار بين هذين الرجلين اللذين يمثل كل منهما جانباً معيناً من جوانب القيم الإنسانية يسيران في خطين متوازيين يستحيل التقائهما في الآيات الكريمـات التاليات: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾. نرى من خلال هذا الحوار أن جانب الشر، الذي يمثله الرجل صاحب الجنتين، قد كفر بأنعم الله وأغتر بالدنيا وبهارجها .. وهنا يتدخل جانب الخير، الذي يمثله الرجل الفقير الصالح، ليذكر صاحبه بأصل نشأته من تراب الأرض، ويذكره كيف أن الله خلقه أطواراً من التراب ثم نطفة إلى أن سواه رجلاً، ثم يذكره بأن النعمة التي هــو فيها – أي الجنتين- ما هي إلا عرض زائل ولا بد من أن يذهب الله به إلى فناء، كمـا أسدى إليه موعظة كي يذكر الله عند دخوله جنته ويقول "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" .. لكن هذا الرجل لم يصغ أبداً لنصائح أخيه القيمة، فعاد إلى جنته فوجدها خاوية على عروشها وقد أرسل الله عليها حاصباً من السماء، فندم الرجل حيث لا ينفع الندم، قال تعالى واصفاً هـذا المشهد: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدا ﴾.
ثانيا

اخي الفاضل

محمود مهيدات

اسعد الله قلبك بالخير

سيدي الفاضل


تسلم الايادي كاتبا العزيز

انت رائع بما تقدمة لنا في كل شئ

جزاك الله خيرا

وجعل كل حرف وكل كلمة بميزان حسناتك

ودمت في حفظ الرحمن

بانتظار كل جديدك الرائع

أخوي ألغالي

أبو كارم

هلا وغلا بعودتك من جديد لبيتك الثاني الذي أفتقدك كتيرا

رائع أنت ,, حينما تصيغ من الحروف
وأسمى ألآيات التي يجماها مضمون قلمك

و بهذا التدفق الوجدانى الفذ
أرجو محبرتك ان تسكب المزيد والمزيد
فكلنا أذان صاغيه لروائعك

أكتب المزيد ..لا تحرمنا
من هكذا قلم لآيملكه الآ ندائر البشر

منهم
واصل ابداعك ..ونحن سيد الحاضرين
ستجدنا دوما بقربك كي نرتوي

فلك كل الشكر وكل اعجابي
ودمت بكل خير وبحفظ الررحمن

كنت هنا

صباح معطر باريج الياسمين

الاستاذ محمود مهيدات

ابارك لك تلك الانامل التي خطة لنا هذه الكلمات

المدونة بماء الذهب

جزاك الله خير وزادك علم ونفع بك

مجهود واضح ورائع


في انتظار كل جديد منك


اسعد الله اوقاتك دائما

لروحك الطيبه الاصيله جوري

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كنت هنا