بسم الله الرحمن الرحيم
الإيمان بين الزيادة والنقصان (الفتور)
الحمد لله الذي جعل لنا دينًا قيمًا ملة أبينا إبراهيم فقال جل وعز: ] ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [ .
الحمد لله الذي ارتضى لنا الحنيفية السمحة فسمانا مسلمين وما جعل علينا في الدين من حرج.
الحمد لله الذي جعلنا أمة وسطًا، لنكون شهداء على الناس ويكون الرسول علينا شهيدًا.
الحمد الله الذي فطرنا على التوحيد فقال سبحانه: ] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [ .
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عدد خلقك، ورضا نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، نشهد أن الحق ما شرعته، والهدى ما حكمت به، ونشهد أن محمدًا عبدك ورسولك وصفيك من خلقك، رسم لنا بهديه منهجًا بينًا لا عوج فيه، وأضاء لنا الدروب قولًا وعملًا.
وبعد: أخواتي..
من سبل الخير التي يسرها الله لنا حلق الذكر ومجالس العلم، وما يحصل فيها من زيادة إيمان وترقيق قلوب، ولما فيها من ذكر الله، وغشيان الرحمة، ونزول السكينة، وحف الملائكة للذاكرين، وذكر الله لهم في الملأ الأعلى، ومباهاته بهم الملائكة.
ولكن:
ولكن ينقطع البعض عن هذه الحلق بسبب سفر أو إجازة أو ظرف من الظروف العائلية حتى نسمع الشكوى من قسوة القلوب وتردد عبارات (أحس بقسوة في قلبي) (لا أجد لذة للعبادة) (أشعر أن إيماني في الحضيض) (لا أتأثر بقراءة القرآن) (أقع في المعصية بسهولة) إلى غير ذلك.
ومما لا شك فيه أخواتي أن الابتعاد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لضعف الإيمان في النفس يقول الله تعالى: ] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [ .
فدلت الآية الكريمة على أن طول الوقت في البعد عن الأجواء الإيمانية مدعاة لفتور النفس وتكاسلها عن الطاعات لافتقارها إلى الجو الإيماني الذي كانت تنعم في ظلاله وتستمد منه قوتها وعزيمتها، وهذا الابتعاد إذا استمر يخلف وحشة تنقلب بعد حين إلى نفرة من تلك الأجواء الإيمانية، فيقسو على أثرها القلب، ويظلم ويخبو فيه نور الإيمان وقد يؤدي إلى حدوث انتكاسة لدى البعض.
قال ابن مسعود عندما نزلت الآية: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين.
ولهذا حذر رسول الله r من هذا المظهر فقال:
«إن لكل عمل شرة، والشرة إلى فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل» وفي رواية
«فقد هلك». وروي أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي r أنه قال:
«لكل شيء شرة ولكل شرة، فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه.. » وقد استعاذ عليه الصلاة والسلام صباحًا ومساءً من العجز والكسل فقال:
«اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل والبخل والجبن، وضلع الدين، وقهر الرجال» قوله r «
شرة» قال المناوي: (الشرة) الحرص على الشيء والنشاط فيه (ولكل شرة فترة) أي وهنًا وضعفًا وسكونًا.
يعني أن العابد يبالغ في العبادة أولًا، وكل مبالغ تسكن حدته وتفتر مبالغته بعد حين. قال المناوي: قال القاضي: المعني أن من اقتصد في الأمور سلك الطريق المستقيم واجتنب جانبي الإفراط (الشرة) والتفريط (الفترة).
(فارجوه) يعني أرجو الصلاح والخير معه.
(وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) لا تعتدوا به ولا تحسبوه من الصالحين لكونه مرائيًا.
وقيل: هو داء يصيب العاملين يؤدي في أسوأ أحواله إلى الانقطاع بعد الاستمرار، وفي أحسن أحواله يظهر السكون والكسل والتراخي والتباطؤ بعد الحركة.
من الحديثين السابقين يتبين لنا أهمية الحديث عن هذه الظاهرة التي تسمى بالفتور – أو بضعف الإيمان – وتنبثق هذه الأهمية من خلال ما يأتي:
(1)
أن الله ذم المنافقين: لتثاقلهم عن الصلاة وكسلهم فيها، وعن الإنفاق كراهية فقال سبحانه: ] وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [ . وذمهم كذلك حين كرهوا الجهاد في سبيله: ] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [
وعاتب المؤمنين فقال: ] مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [ والتثاقل هو الفتور بعينه.
(2)
أن الكسل والفتور لا يختص بطائفة معينة من الناس: بل إنه يسري في الناس على مختلف طبقاتهم وأعمارهم وأحوالهم.
(3)
ما للفتور من خطورة: حيث يؤدي بكثيرة من الناس إلى الانحراف ولا أدل على خطورته من كثرة استعاذة رسول الله r منه. وقد بين رسول الله r نوعين من الفتور: فمنه ما هو مستديم، ومنه ما هو طارئ (عارض):
أ)
فأما المستديم: كأن يكون المرء دائم الكسل عن أداء الطاعات متثاقلًا عنها، لا يجد في نفسه رغبة عند أدائها وهذا سببه مرض في القلب، وقد يكون يحب هذه العبادات ويحزن إذا فاتته، ولكنه مستمر في كسله وفتوره تمر عليه الليالي وهو يريد قيام الليل وختم القرآن ولكنه لا يفعل، وهذا أخف درجة من الأول.
وهذه حال كثير من المسلمين الآن، وهذا النوع من الفتور هو الذي أشار إليه رسول الله r بقوله:
«ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل».
ب)
وأما الفتور العارض: الذي لا يوقع في معصية ولا يخرج من طاعة – وهذا لا يسلم منه أحد – إلا أن الناس يتفاوتون فيه فهو الذي قصده رسول الله r : «فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى» .
*
وهو الذي أبكى ابن مسعود – رضي الله عنه – في مرض موته لأنه أصابه في حال فترة ولم يصبه في حال اجتهاد.
*
وهو الذي جعل حنظلة – رضي الله عنه – يظن النفاق في نفسه حين لقيه أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – فقال: كيف أنت يا حنظلة ؟ قال: نافق حنظلة. لأنه حين يكون عند رسول الله r فيذكرهم بالنار والجنة حتى كأنهم رأي العين، فإذا خرجوا من عنده عافسوا الأزواج والأولاد والضيعات فنسوا كثيرًا.
يقول ابن القيم رحمه الله : فتخلل الفترات للسالكين أمر لازم لابد منه، فمن كانت فترته إلى مقاربة وتسديد، ولم تخرجه من فرض، ولم تدخله في محرم: رُجي له أن يعود خيرًا مما كان، مع أن العبادة المحببة إلى الله سبحانه وتعالى هي ما داوم العبد عليها.
ولذا: كان من حديث رسول الله r لعائشة حين سأل عن امرأة كانت عندها، قالت هذه فلانة تذكر من صلاتها.. قال:
«مه، عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه».
قال الإمام النووي شارحًا الحديث: فيه الحث على الاقتصار في العبادة، والنهي عن التعمق، والأمر بالإقبال عليه بنشاط، وأنه إذا فتر فليعقد حتى يذهب الفتور.
من صور الفتور
الصورة الأولى:
السرف ومجاوزة الحد في تعاطي المباحات والاهتمام الزائدة بالدنيا، والدنيا حلوة خضرة فقلَّ أن ينجو منها من وقع فيها، لذلك لما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض المباح قال رحمه الله: (هذا يتنافى مع أصحاب الهمم العالية ولذلك قيل (همك على قدر ما يهمك، خواطرك من جنس همك) فاهتمامات الإنسان عنوان على ما في داخله من عزم أو خور.
الصورة الثانية:
وهي نتيجة للصورة الأولى تبدأ بالتكاسل عن أعمال الخير والعبادات، مع ضعف وثقل أثناء أدائها ثم يقسو القلب فلا يعود يتأثر بالقرآن، وبالمواعظ، حتى يصل من قسوة قلبه ألا يتأثر بموت ولا ميت.
وأعظم من ذلك عدم تأثره بآيات الله وهي تتلى عليه.
ويصل الفتور إلى درجة أبعد إذا ألف الوقوع في المعاصي والذنوب وقد يصر على بعضها ولا يحس بخطورة ما يفعل وهو يقول هذه صغيرة وتلك أخرى وهلم جرا، وقد يصل به الأمر إلى المجاهرة.
وأود أن أشير إلى أن هناك فرقًا بين الفتور والانحراف، ولكن الفتور قد يصل بصاحبه إلى الانحراف إن لم يتداركه الله بمنة منه وفضل.
الصورة الثالثة:
ومما يترتب على الصورة الثانية من المظاهر الغلو في الاهتمام بالنفس مأكلًا ومشربًا وملبسًا ومركبًا، فبعد أن كان لا يلقي لهذه الأشياء بالا إلا في حدود ما شرع الله إذا هو ينفق الوقت والمال والاهتمام بأمور كمالية، فتضيع الأوقات بما لا ينفع. قال تعالى: ] يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ