شروط التحول نحو الدولة المدنية بالوطن العربي لم تتوفربقلم: د. يوسف مكي 2014/03/14 - 03:00:00
بذات القوة والصدمة التي بدأت بها الحركة الاحتجاجية بالأقطار العربية، والتي مثلت في حينه بركانا عاصفا لا يبقي ولا يذر، تنهار الآمال والتطلعات التي بنيت عليها. ويتحول المشروع الربيعي إلى موسم لإلغاء الهويات الكبرى، ومصادرة الكيانات الوطنية، وتحفيز النعرات العرقية والفئوية. ومشاهد القتل والتدمير ومحاولات التفتيت في ليبيا وتونس ومصر وسوريا واليمن، خير شاهد على ذلك. فحين بدأ موسم "الربيع" أو "الخريف" لا فرق، إثر حادثة البوعزيزي في تونس، لم يتوقع أكثر الناس معرفة بأوضاع المنطقة، أننا على أبواب إعصار، انتشر بسرعة خطفت الأبصار، إلى عموم المنطقة.
وقد أدت سرعة انهيار ثلاثة أنظمة سياسية، واحتمالات انهيار أنظمة عربية أخرى، إلى وصف الإعلام الغربي لهذه الأحداث بالربيع العربي. وكان التوصيف يحمل معنى يشابه ما يجري في منطقتنا بالتحولات التي شهدتها أوروبا الشرقية بعد سقوط حائط برلين، حيث انهارت جميع الدول الاشتراكية في وقت متقارب، بشكل أذهل العالم أجمع.
ولعل المقاربة الدقيقة بين الظروف الاجتماعية والسياسية في أوروبا الشرقية، ومثيلتها في البلدان العربية، تكشف عن جوهر نجاح الربيع الأوروبي الشرقي، وفشل مثيله في البلدان العربية.
مقاربة بين ربيعين:
الدلالة الغربية لمعنى "الربيع"، تشير لتشابه ما جرى بالوطن العربي، بالأحداث التي عمت أوروبا الشرقية، مع بداية التسعينات من القرن المنصرم، رغم أن هذا التشابه لا يستقيم مع مجريات الأمور، وتطور الأحداث في كلا "الربيعين".
فقراءة ما جرى في أوروبا الشرقية، تؤكد جملة من الحقائق، أهمها أن التطور التاريخي في تلك البلدان يفرض تحولا لا مناص من تحققه نحو الانتقال من الأنظمة الشمولية، إلى النظام الديمقراطي على النمط السائد في الغرب.
فالتكامل الاقتصادي الذي تحقق بين بلدان أوروبا الشرقية، بقيادة الاتحاد السوفييتي، القطب الآخر في معادلة التوازن الدولي، أدى إلى ارتقاء عملية التصنيع في تلك البلدان، وأسهم في خلق هياكل اجتماعية جديدة، ما كان لها أن تواصل القبول بالنظام الشمولي، الذي فرض عليها. فكان أن جاء التحول لقيم الليبرالية، باتجاه موضوعي وصحيح.
ولأن التوجه من النظام الشمولي، للنظام الديمقراطي، مطلب أساسي لغالبية الجمهور بأوروبا الشرقية، فقد تم التحول من غير عنف يستحق الذكر. ولم تجر حوادث قتل للزعماء، باستثناء ما حدث في رومانيا، واقتصر على إعدام الرئيس نقولاي شاوشيسكو وزوجته. ولا شك أن شيخوخة الإمبراطورية الشيوعية السوفييتية، التي أمست على وشك السقوط، حال دون استخدام العنف لقمع الحراك الشعبي، الذي دشن بإسقاط حائط برلين.
ورغم الفراغ السياسي الذي ساد أثناء الحقبة الشمولية في البلدان الاشتراكية الأوروبية، فإن تجانس التشكيلات الاجتماعية، مع مطلب التحول الديمقراطي، عجل في ملء الفراغ، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، والتحول نحو الديمقراطية. ولم يكن إعداد المسرح للانتقال نحو العملية السياسية الجديدة سوى مسألة وقت قصير.
أما في البلدان العربية، التي مر عليها "الربيع العربي"، فالوضع مختلف جدا عما جرى بأوروبا الشرقية.
فالأنظمة التي انطلقت منها الحركات الاحتجاجية، وتحديدا تونس ومصر، هي أنظمة حليفة للغرب. وهي على الأقل شعاراتيا، تلتزم بذات النهج السياسي الذي يمارس في الغرب، واللافت هو التحول السريع في السياسة الأمريكية والأوروبية من هذه الأحداث، واعترافها بالأوضاع الجديدة، مؤكدة دون مواربة صواب مقولة (أن ليست هناك صداقات دائمة).
بالوطن العربي، لم تتوفر أي من شروط التحول نحو الدولة المدنية، فلا الهياكل الاجتماعية جاهزة، ولا الحياة السياسية مهيأة. فبعد عقود طويلة من غياب الحريات، وتجريف شبه شامل للحياة السياسية ولدور الطبقة المتوسطة، لم يكن منتظرا أن يحدث حراك منظم، ينقل الواقع السياسي القائم من الحالة الشمولية إلى الحكم الديمقراطي والدولة المدنية.
ولعل المشترك بين ربيع أوروبا الشرقية والربيع العربي، هو أن كليهما يأتيان في بداية مرحلة انتقال من نظام دولي إلى آخر. فسقوط أوروبا الشرقية، وتحولها من أنظمة شمولية تلتزم بالمنهج الاشتراكي وهيمنة الدولة على وسائل الانتاج، إلى أنظمة تتبنى سياسة الأسواق المفتوحة والحرية الاقتصادية، والنموذج الغربي في الحكم، كان إيذاناً بانتهاء التعددية القطبية، وتربع الولايات المتحدة منفردة على عرش الهيمنة الدولية. وبالمثل، فإن “الربيع العربي”، يأتي متزامناً مع بروز قوى دولية جديدة، على رأسها روسيا والصين، على المسرح الدولي وتمثلها مجموعة الـ«بريكس».
وإذا كان الربيع الأول الأوروبي، الشرقي، ثار على أنظمة سياسية معادية للغرب. فقد كانت دول أوروبا الشرقية في الكتلة الحليفة للاتحاد السوفييتي، وترتبط معه بحلف عسكري، هو حلف وارسو، وتحتمي بمظلته النووية. أما الدول التي شملها الربيع العربي، فبداياته الحراك ضد أنظمة ظلت حتى لحظة سقوطها موالية للغرب.
ولأن الحراك في طبيعته، وكما بدا عفويا، لم تقف خلفه حركة سياسية، ولم تسنده مناخات اجتماعية، وكان دون منهج ودون استراتيجية، ومن غير حامل اجتماعي، فإن النتيجة المتوقعة، هي تعثره أو اختطافه وحرف اتجاهه. يؤكد ذلك أن الشباب اليافعين الذي قادوا الحراك في الميادين بالمدن الرئيسية التي شملها "الربيع العربي"، لم يمتلكوا أي برنامج وتصور لشكل الدولة المرتقبة. فكان أن اتسم ذلك بالعفوية، وردود الأفعال، والتسرع في الانتقال من النظم السابقة إلى أنظمة جديدة لا تختلف كثيرا عنها من حيث النهج والممارسة، ولا تلبي المطالب الأساسية التي حملتها شعارات المحتجين، وعلى رأسها مطلب التنمية والقضاء على الفساد، والحياة الحرة الكريمة للمواطنين.
وبديهي أن يتعاطف المرء مع المطالب والشعارات المشروعة، رغم أن ما كشفت عنه الحوادث اللاحقة، قد أعادنا لقوانين التحول الاجتماعي التي تفترض وجود شروط خاصة، بنيوية واقتصادية، لأي تحول اجتماعي حقيقي. فلا يكفي أن يتجمع الناس بأعداد كبيرة في الميادين، يرفعون اللافتات، فيؤدي حراكهم إلى سقوط المسؤول الأول في الحكم، لكي يتحقق التحول من الوضع الراكد إلى الربيع الواعد.
أما حين تكون نتائج هذا الحراك "الربيعي" تفتيت الكيانات الوطنية، ونشر الفوضى، وغياب الأمن والاستقرار، فإن ذلك أخطر بكثير ويستدعي موقفاً آخر من الحراك. إن استعادة مكانة الإنسان والارتقاء بها، والتأكيد على المواطنة، وسيادة دولة القانون، يفترض اتجاه بوصلة التحولات إلى الأعلى، وليس في اتجاه ناكس، يغوص في التاريخ السحيق، ويغيّب قيم المدنية والحضارة.
وما من شك في أن عوامل موضوعية، أسهمت في الانفجار الذي مرت به البلدان العربية، وأدت إلى سيادة حالة الاحتقان. لكن ذلك لا ينفي وجود أيادٍ خارجية أسهمت فيه، مستغلة حالة الغضب. فقد تزامنت هذه التطورات مع مشاريع مشبوهة سبقتها، وعدت بتغيير خارطة الوطن العربي، وخلق سايكس بيكون جديدة، أكثر عدوانية. لقد شكل استهداف الأمة هدفاً في الاستراتيجيات المعلنة للدول الكبرى، ولا جدال في أن الثغرات المتراكمة في مجتمعاتنا العربية قد مكنتها من تحقيق أهدافها.
كما خلق عالم القرية الإلكترونية الصغيرة.. العالم المتشابك، وثورة الإعلام والمعلومات، حقائق جديدة، أهمها، بلوغ الشفافية مرحلة غير مسبوقة، فقد جرت تعرية سياسات الجميع. وكشفت بوضوح كذب الغرب وزيف ادعاءاته، ومشاريع التنمية المعنية بتطوير المجتمعات العربية. وكانت النتيجة إيقاظ نزعات الغلو والتطرف بجميع أشكاله، بما يخدم مشاريع التفتيت في المنطقة.
سقوط ربيع الإخوان:
في ظل الفراغ السياسي في معظم البلدان التي طالتها الحركة الاحتجاجية، قفز الإسلام السياسي، ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين، الذين التحقوا مؤخرا بالحراك الاجتماعي إلى واجهة الأحداث. ولم يكن ذلك مستغربا، فالتاريخ لا يحتمل الفراغ، وهم وحدهم الذين ظلوا قوة متماسكة؛ بسبب تكتيكاتهم وتحالفاتهم الخفية والمعلنة مع أقطاب النظام السابق. وأيضا بسبب تحكمهم في مؤسسات العمل الخيري والدعوي، وادعاءاتهم المتكررة بأنهم ليسوا سوى جماعات دعوية، ليس لها مطمع في الحكم.
يضاف إلى ذلك، أن القوى الاجتماعية الحليفة للأنظمة السابقة، راكمت خبرات سياسية لعدة عقود، وتمكنت من الهيمنة على المفاصل الاقتصادية، ومطالب التغيير لم تكن موجهة مباشرة نحوها. فرغم أن الحزبين الحاكمين في تونس ومصر جرى حلهما، لكن ذلك لم يترافق مع قرارات باجتثاث أعضائهما، بل إن هناك من رأى، ضمن القوى السياسية التي تصدرت المشهد بعد التغيير، في قوة هذه الطبقة التي تعرف بالفلول، دعما للاقتصاد المهترئ، وسبيلا للنهوض من جديد بالبلدان التي شهدت الحركة الاحتجاجية.
مخرج للإنقاذ لم يتحقق:
ربما بقي الحل الوحيد، والممكن الذي كان من الممكن تطبيقه للحيلولة دون تمكين جماعة الإخوان المسلمين من تسلم السلطة في تونس ومصر وليبيا، وتحقيق صبوات وآمال الشباب الذين تصدروا المشهد، هو إطالة فترة الحكم الانتقالي لفترة لا تقل عن خمس سنوات، وخلق مناخات إيجابية، تمكن من نشوء حركات سياسية قوية قادرة على التعبير عن مصالح غالبية الناس، وأيضا تعميم روح المواطنة ودولة القانون، والتبشير بقيم الحرية، لكن ذلك لم يتحقق للأسف، مما ممكن جماعة الإخوان من الهيمنة على مفاصل السلطة، ومحاولة أخونة المجتمع والدولة.
التسرع في إعلان الدساتير:
إن نشوء حركات سياسية، وتحقيق تحالفات قوية فيما بينها، في البلدان التي شهدها موسم "الربيع"، وعدم الاستعجال في إصدار الدستور، سيمكن من خلق حالة جديدة تحقق التكافؤ بين الأحزاب المدنية، والتنظيمات السياسية الأصولية. وفي هذه الحالة، ستكون الأوضاع أفضل بكثير، سواء تمكنت جماعة الإخوان من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، أو فشلت في ذلك. فهناك فرق كبير بين أن تحتكر الجماعة الشارع السياسي والسلطة، وبين أن تكون في السلطة فقط، وتواجه معارضة سياسية قوية في الشارع، بما يلجم تصرفاتها وسعيها المحموم نحو أخونة الدولة والمجتمع.
لقد استأثر الإخوان، في ظل غياب الحركات السياسية المنافسة بصياغة دستور يمثل توجهاتهم السياسية، مع أن الدستور في روحه هو مشروع توافقي معبر عن مختلف مكونات النسيج الاجتماعي، ولا يكفي في اعتماده اللجوء إلى صناديق الانتخابات، وكان بروزه عن طريق الاقتراع وليس التوافق، قد خدم جماعة الإخوان المسلمين.
لقد ورث الإخوان المسلمون عن النظام السابق تركة ثقيلة من أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وفساد شمل معظم مرافق الدولة وأجهزتها، وانفلات أمني عم معظم المحافظات بعد 25 يناير عام 2011، وبطالة تتفاقم كل يوم، ونقص في المواد الغذائية والسلع الاستهلاكية، وتضخم كبير في الأسعار.
وبدلاً من التحالف مع القوى التي شاركت في الحراك السلمي، وأوصلت “الإخوان” إلى السلطة، تصرفوا بطريقة مخالفة لأبسط قواعد المنطق. لقد ظلوا مسكونين بهواجس الخوف من فقدان سلطة انتظروا اقتناصها طويلاً، وكانت الخشية من ضياعها، هي “عقب إيخل” الذي تسبب في الثورة عليهم، وفقدانهم صولجان الحكم، في هذا البلد العريق، لأمد يبدو غير منظور، وربما للأبد.
تصرف الإخوان المسلمون أثناء فترة حكمهم القصيرة بأرض الكنانة بمنطق المنتصرين، وبأن الساحة خلت لهم لوحدهم، ودون مشاطرة غيرهم فيها. عبروا أولا عن زهدهم في السلطة، وأنهم يكتفون بالمجلس النيابي إذا حصدوا أغلبية مقاعده، ووعدوا بترشيح فرد من خارج دائرتهم للانتخابات الرئاسية، وأنهم لن ينافسوا على رئاسة مجلس الشورى. وعندما هيمنوا على المجلس النيابي، تراجعوا عن وعودهم. وحين تسلم مرشحهم الدكتور مرسي السلطة، بقي الخوف من ضياعها مهيمناً على سلوكياتهم. ومن حيث أرادوا الاحتفاظ بالسلطة إلى ما لا نهاية، معتبرين صناديق الاقتراع جسراً مؤقتاً لتحقيق هذا الهدف، فإنهم أضاعوا كل شيء.
أعاد “الإخوان” حكم الحزب الواحد، وكأن مصر لم تنتفض ضد الشمولية والإقصاء والاستبداد. فجرى الاستيلاء على جميع أجهزة الدولة، وتسارعت أخونة الدولة، معتبرة مصر غنيمة لا ينبغي التفريط فيها. وجرى هجوم إعلامي مكثف على القضاء، انتهى بالاعتداء عليه. وبدأ التعرض من عناصر محسوبة على “الإخوان”، بأسلوب بذيء وغير متسق مع الثقافة الإسلامية والعربية للمبدعين والفنانين، وشمل القدح أعراض الناس وخصوصياتهم. وتزامن ذلك مع تسعير طائفي ومذهبي وديني، انتهى بالقتل والسحل على الهوية. ولم يسلم الإعلاميون ولا الصحافة والفضائيات من هذه الهجمة.
وضاعف من الأزمة، فقدان الكرامة الإنسانية، وتعطل محطات وقود السيارات. ومع تصاعد أزمة الانفلات الأمني تراجعت السياحة، وانخفضت العملة المصرية، وتفاقمت أزمة السكن، وكبرت معاناة العائلات البسيطة، وخرج المصريون مجدداً إلى الميادين؛ طلباً للحل. تراجع دور مصر العربي والدولي. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، تكشف للجميع أن الشعارات التي رفعها الإخوان أثناء وجودهم خارج السلطة، لم تعن شيئاً. فالشعار الذي تعودوا الهتاف به والذي يتمثل بالقضاء على اليهود، وبأن جيش محمد سيعود، انتهى برسالة من مرسي لرئيس الكيان العبري شمعون بريز يصفه فيها بالصديق الوفي، مؤكداً تمسك مصر بمعاهدة كامب ديفيد وبالتطبيع مع “إسرائيل”.
وكلما تفاقمت الأزمات، فقدت جماعة الإخوان المسلمين نصيباً آخر من شرعيتها، وانتهى بها الأمر لفقدان ثقة معظم قطاعات الشعب المصري. لكن الجماعة ظلت في حالة إنكار مستمر للأزمة. وفي حالات نادرة يعترف قادتها بوجود الأزمة، إلا أنهم يحيلون أسبابها إلى عبث وتخريب من خارج دائرتهم، في غطرسة واستعلاء أكدت نذره باقتراب أفول شمسهم.
انتهى حكم الإخوان في مصر، وأعاد الشعب المصري - بمساعدة جيشه ودعم أشقائه - الإمساك بزمام مقاديره. وبقيت مخاطر التفتيت جاثمة على بقية البلدان التي شهدت الربيع الخريفي. والأمل أن يعود للناس توازنهم، فيغلبون لغة الحرص على أوطانهم، على ما عداها من التجليات الطائفية والفئوية. لكن المؤكد أن المشهد الربيعي الإخواني شهد انحسارا واضحا، وتلك طبيعة الأشياء وصدق الحق، حيث قال: "أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".