الباحث الالماني يصف لحظة رؤيته لسدوس التراثية بعد زيارته الثانية لها
التقت به «» عقب زيارته لها لحضور وضع حجر الأساس للمرحلة الأولى لتطويرهاعبدالعزيز الزغيبي - الرياض 2014/02/24 - 03:05:00
بعد خمسة وثلاثين عاماً من مغادرته سدوس، التراثية، عاد الالماني مدينا بالفضل بعد الله تعالى، في هذا الاهتمام التراثي والعمراني للمهرجان الوطني للتراث والثقافة، الذي أسَّسه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حفظه الله، قبل حوالي ثلاثة عقود.. والذي يشاء المولى، عزَّ وجلَّ، أن يتواكب احتفاؤنا بوضعكم حجر الأساس بانطلاقته في دورته التاسعة والعشرين. ليقف في نفس المكان الذي أفنى لأجله عمراً وجعله بحثاً علمياً لرسالته في الدكتوراة، ويشارك في اعادة ترميم سدوس التي اغرم بها واظهرها للعالم أجمع.
وقف الدكتور المهندس هانكي في زيارته الثانية لسدوس باكياً بعد أن ودعها مبتهجا ومسرور القلب، حيث لم يجد فيها سوى بقايا من مخلفات الأبنية الطينية وشوارع مطموسة مختلفة المعالم، وجدها وقد استوت بالأرض تماماً، أخذ يتجول بها وهو يبكي بمرارة، متمنياً أنه لم يرها على تلك الحال وظل يحتفظ بها في ذاكرته بأبهى صورها.
لم يدر في خلد الالماني كُرستف ماريا هانكي ذات يوم أن يزور دولة عربية بل خليجية تحديداً، بل كان لا يعرف شيئاً عنها اطلاقا، الا ان الاقدار شاءت أن ترسله الشركة الاستشارية التي يعمل لديها مهندساً معمارياً إلى المملكة العربية السعودية للإشراف على المشاريع المعمارية للشركات الالمانية فيها، كان هو وفريقه المكون من شخصين يتنقلون بين القرى التي تبعد عن الرياض 300 كيلو متر للاطلاع على أحوالها.
في أحد الايام وكان يوم جمعة توجه هانكي إلى سدوس الواقعة في الشمال الغربي لمدينة الرياض، لتأسره سدوس في حبها من أول خطوة تخطوها قدماه على ترابها، أخذ يتأملها ملياً في بساطة مبانيها الطينية وفي شوارعها وسط ذهول وصدمة حضارية وثقافية، حيث إنه قدم من أوروبا في عصر ازدهرت فيه بلده المانيا بالصناعات وبالحضارة المدنية وبالمباني الشاهقة، ذات الطوابق المتعددة والشوارع المرصوفة المنظمة.
وبعد لحظات من التأمل أخذ في التجول على حدود سدوس، ليأخذ فكرة واسعة عن الموقع الذي سيعمل فيه، وسط رهبة واستغراب أهالي سدوس لشكله الغريب ولباسه الاجنبي، حاملاً أدوات العمل على ظهره، ومتعدياً في نظر سكان سدوس على مملكتهم، وحين بدأ بالاقتراب اكثر استوقفه طفل لم يتجاوز السابعة من عمره، لتبدأ من هنا رحلته مع معشوقته سدوس التي تعد من القرى القديمة جدا في نجد، والتي تبعد عن العاصمة حوالي 50 كيلو مترا، وتقع في الشمال الغربي للرياض ولقدمها عرفت فيها بعض الآثار.
وكان الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، قد وضع قبل نحو اسبوعين حجر الأساس للمرحلة الأولى من مشروع تطوير سدوس التراثية، بحضور الأمير أحمد بن عبدالله بن عبدالرحمن محافظ الدرعية، والدكتور فيصل بن عبدالرحمن بن معمر مستشار خادم الحرمين الشريفين والأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني.
«اليوم» التقت بالدكتور المهندس كُرستف ماريا هانكي البالغ من العمر 84 سنة والمتزوج من امرأتين وليس لديه أبناء، في أحد فنادق الرياض التي سكن فيها أثناء حضور وضع حجر الاساس للمرحلة الاولى لتطوير سدوس، وكان ودوداً ميالاً للابتسامة والنظرة التفاؤلية بالمستقبل، فكان الحوار التالي:
اكثر ما شدني هو تفاجئي بأني كنت أرى غرفا ومباني خالية لا أحد يسكن فيها، بالرغم من كونها جيدة للسكن ولا تعاني من مشاكل في البناء، من هنا تولدت لدي فكرة تصميم نظام معماري يجذب الناس إليه ويجعلهم يعيشون فيه
حدثنا عن تفاصيل أول زيارة لك للمملكة العربية السعودية؟ ومتى كانت؟قدمت للمملكة في عام 1980م، وكانت مهمتي الاساسية الإشراف على المشاريع المشتركة بين الحكومة الالمانية والسعودية التي تعمل عليها شركات المانية، والبحث عن مشاريع اخرى في القرى القديمة يمكن للشركات الالمانية العمل عليها.
كيف تعرفت على سدوس التراثية؟ فيما كنا نبحث أنا وفريقي المكون من شخصين عن القرى القديمة حول الرياض على محيط 300 كيلومتر بشكل اسبوعي - كل اسبوع في منطقة -، صادفنا سدوس في احدى الرحلات وكان يوم جمعه، أسرني حبها من أول خطوة تخطوها قدماي على ترابها، بدأنا أنا وفريقي بالتأمل ملياً في بساطة مبانيها الطينية وفي شوارعها وسط ذهول من شكلها الخارجي، وكانت القرية حية بنسبة 90% ولا تحتاج الا لتحسينات بسيطة بنسبة 10%.
هل لك أن تخبرنا عن الاحداث التي سبقت اجتماعكم بأمير سدوس آنذاك؟ بعد لحظات من التأمل أخذنا في التجول على حدود سدوس لنأخذ فكرة واسعة عن الموقع، وسط رهبة واستغراب أهالي سدوس، وكانوا ما زالوا يعيشون حياة البدو، بينما كانت أشكالنا غريبه عنهم ولباسنا غير الذي تعارفوا عليه وكنت أحمل أدوات العمل المسحي على ظهري، كنا نسير وهم ينظرون إلينا نظرة المعتدين على مملكتهم، وحين بدأنا بالاقتراب اكثر استوقفني طفل لم يتجاوز السابعة من عمره، وامسك بيدي داعياً إياي بالذهاب برفقته وهو يتفوه بكلمة «الأمير الأمير»، لم نكن على دراية بما يقول فنحن لا نتكلم العربية، اضطررنا لرفقته، ونحن لا نعلم إلى أين يأخذنا، مشينا عدة امتار إلى أن وصلنا إلى قصر طيني كبير، ثم أدخلنا وذهب إلى صالة الاستقبال، حيث كان هناك رجل واقف وفي عينيه غضب، وعلى يمينه ويساره رجال حراسات ومعاونون، ولحسن الحظ يوجد أيضا من ضمنهم شخص يتحدث الإنجليزية، دعانا إلى تناول الشاي، بعد ذلك سألنا بلهجة حادة ماذا تفعل هنا؟ عندها تبين لنا أنه امير سدوس ابن معمر، وهو غاضب لتواجدنا واطلاعنا على خصوصية الأهالي، فأخبرته أن وجودنا مرتبط بعمل تصاميم معمارية لسدوس وتحسين مداخل ومخارج سدوس، وإعادة ترميم المباني وترتيب الممرات التي تحتاج إلى تصليح، تغيرت نظراته إلينا وشعر بالارتياح وأخذ يطمئنا بأنه معنا، وسيوفر لنا كل التسهيلات اللازمة وسيدعمنا بكل ما يستطيع، من هنا تولد الشغف والارتباط العاطفي والعملي بسدوس التي أسرتني بتكوينها وطبيعتها.
ما أول عمل قمت به في سدوس التراثية؟بدأت بعمل استبيان وأجريت قياسات وتحاليل ورسومات معمارية لتصاميم حديثة في ذلك الوقت، تتناسب مع الشكل الخارجي لسدوس لنقوم بترميم المساكن التي تعرضت لأذى وفتح ممرات جديدة، وترتيب الشكل العشوائي.
ماذا عن أبرز الاشياء التي شدت انتباهك في سدوس؟اكثر ما شدني هو تفاجئي بأني كنت أرى غرفا ومباني خالية لا أحد يسكن فيها، بالرغم من كونها جيدة للسكن ولا تعاني من مشاكل في البناء، من هنا تولدت لدي فكرة تصميم نظام معماري يجذب الناس إليه ويجعلهم يعيشون فيه.
أيضا شدني تصميم البيوت يشوبها كثير من الخصوصية التي تفتقد فتحات التهوية والساحات الواسعة والشوارع، كانت مصممة بلا تقاطعات مستقيمة بمسار واحد، وبشكل يجعل الوصول إلى الاهداف المنشودة غاية في الصعوبة ومتعبا في المشي، وكل ذلك لإضفاء طابع الخصوصية.
كم استغرقت مدة العمل في سدوس التراثية؟عملي في سدوس كان على مرحلتين، الاولى كنت أذهب إليها كل جمعة ولمدة أربع سنوات، واعمل على رسم بيانات وتخطيط دقيق لها، بالاضافة إلى اعمال الترميم البسيطة التي كانت تجريها الشركات الالمانية فيها، وقد كنت صممت معظم الغرف والممرات، والثانية هي المرحلة الفعلية لعملي فيها.
حدثنا أكثر عن المرحلة الثانية متى بدأت؟ وما هي الآلية التي عملت بها؟استمررت أعمل لدى الشركة في عدة مشاريع في مناطق متعددة كالرس وجدة، إلى أن انتهت فترة العقد المبرم بين الحكومة السعودية والشركة بعد أربع سنوات، بعدها قررت البقاء برغبة شخصية، وبدعوة موجهة من أبناء المعمر لمساعدتهم في إعادة تصميم سدوس بشكل جذري، بما أنني أجريت بحوثاً واستبيانات معمارية عليها ولي دراية بحالها، في حين عادت الشركة إلى المانيا.
بدأت في التفكير ملياً كيف أصنع منها طابعا اسلاميا بما أن اهلها مسلمون وهي في دولة اسلامية ولسبب فخامة الطراز العمراني الاسلامي، حينها استعنت بمكتبة جامعة الملك سعود في الرياض وقرأت ما يقارب سبعة عشر كتاباً في تفاسير الاحاديث النبوية والتاريخ الاسلامي والسعودي، لأفهم طبيعة الحياة السعودية ذات المجتمع الاسلامي، كذلك القرآن الكريم قرأته كاملاً، توصلت حينها إلى وصية سيدنا موسى - عليه السلام - أن تكون البيوت باتجاه القبلة فوضعت تلك الملاحظة في أول خطة عمل، بعد ذلك عدت إلى سدوس لنبدأ العمل في تشكيل وجه جديد وبشوارع رئيسية متجهة أيضاً إلى مكة تسهل الوصول للمسافرين اليها، عكس ما كانت عليه سابقاً، حيث كان السكان يشتكون من عدم معرفتهم طريق الذهاب الى مكة، وبعد ثلاث سنين أنجزت العمل بدون أي مساعدة من أحد في التصميم، وعدت إلى ألمانيا.
وطلب مني أهل سدوس أن اصمم بيوتهم وشوارعهم، بحيث تشمل سبعة إلى ثمانية بيوت في المربع الواحد، عملاً بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أوصى فيه بسابع جار.
عدت إلى ألمانيا وجعلت من سدوس رسالة بحث علمي لمرحلة الدكتوراة، ما الذي دفعك لذلك؟ببساطة، سدوس التراثية هي ذاتها من دفعني إلى عمل بحث علمي، ولم أفكر حينها مطلقاً في أن احتفظ بالبحث لي شخصياً او ان اعمله ارضاءً لرغبتي، بل أردت أن انقل تلك التجربة إلى كل العالم واجعل منها معلماً تراثياً، وقد حضر فيصل المعمر وابنه إلى المانيا لحضور مناقشة الدكتوراة عن سدوس.
واستغرق مني البحث الذي يحتوي على مئات الصفحات ما يقارب تسع سنوات، منها اربع سنوات كنت أعمل عليه فقط في كل جمعة، بعد ذلك استغرق مني العمل كل يوم طيلة السنوات المتبقية، وهو يحتوي على مخطوطات رسومية كثيرة جداً ونصوص أيضا.
هل هناك معوقات واجهتك في عملك؟لم أواجه أي صعوبة تذكر، فقد كان يدعمني امير سدوس، ويوفر لي كل ما احتاجه إلى أن انهيت العمل تماماً وعدت إلى المانيا.
حدثنا عن لقائك بالأمير سلطان بن سلمان والذي كان سبب زيارتك الثانية للمملكة؟التقيت الامير سلطان بن سلمان رئيس هيئة السياحة والاثار في أحد المعارض السياحية الدولية عام 2009 تقريباً، واخبرته عن بحثي وتجربتي في تطوير سدوس، حيث اطلع عليه وقلت له أنا سوف أساعدكم بكل ما استطيع من قوة وجهد لإعادة بناء سدوس، وقد أبدى اعجابه الشديد بالبحث، وقال «هذا البحث لن ولم اشاهد مثيلا له في أي دولة اسلامية قط، هذا بحث فريد من نوعه، من هنا بدأنا الترتيب لإعادة بنائها، استناداً على البحث الذي بحوزتي.
وقد التقيت يوم الاثنين الموافق 10 /2/2014 م بالأمير سلطان بن سلمان وفيصل المعمر هنا في الرياض، وحددنا عملية البدء والترتيبات اللازمة وطرحت سؤالاً عليهما من سيقوم بالإشراف والعمل على المشروع؟ أشار إلي الامير سلطان بن سلمان وقال: «أنت دكتور هانكي من سيشرف ويخطط للمشروع، ولكنه حقيقة يصعب على عجوز مثلي بلغ الرابعة والثمانين من عمره أن يقوم بهذا العمل وحده، لذلك ستكون آلية الاشراف بالنسبة لي هي الحضور الى سدوس مرة واحدة في كل شهر أو شهرين.
صف لنا لحظة مشاهدتك سدوس بعد 35 سنة من مغادرتك لها؟ كانت صدمة بالنسبة لي لم اجد فيها سوى بقايا من مخلفات الأبنية الطينية وشوارع مطموسة وقرية مختلفة المعالم، فبدأت بالبكاء، وجدتها وقد استوت بالأرض تماماً، اجتمعت في رأسي عدة تساؤلات لماذا وكيف ومتى وأين سكانها وما الذي حصل، فعلاً كانت صدمة مؤلمة.
كيف سيتم إعادة بناء سدوس؟ سيتم إعادة بنائها بذات الشكل الموجود في البحث لتكون تراثية تاريخية، ولن تدخل في بنائها حداثة المدينة.
ختاماً دكتور هانكي.. هل لديك ما تود ان تقوله؟أتمنى أن تكون رسالتي وصلت بوضوح، وأسأل الرب أن يساعدكم في نشر بحثي، وكتابي «سدوس» لتصميم وبناء أي مدينة أو شأن تاريخي، ولو كان للعمر متسع لكنت شاركت في تحسين واعادة بناء الاماكن التاريخية والاثرية وأنا فخور بذلك، ولكن سأقضي ما تبقى من عمري إلى جانب عائلتي ورعايتها، كما أشكرك على العمل الذي قمت به وستقوم به من اجل قرية سدوس أولاً ثم من اجل ايصال تجربتي للقراء
رئيس هيئة السياحة والآثار ومحافظ الدرعية يستمعان لوجهة نظر د. هانكي حول تطوير البلدة
د. هانكي يشرح طريقة تصميمه بيوت البلدة قديماً
كرستف متحدثاً للزميل عبدالعزيز الزغيبي
أحد الطرق الرئيسة في سدوس
سدوس التراثية كما هي عليه الآن
بعض من معالم سدوس التراثية