لماذا يحبُّ أحدنا شخصاً بالذات دون غيره؟ألأنّه يراه جميلاً حَسَناً فينجذب إليه.
ولكن العرب قالوا : " يا ربَّ مُستحسَنٍ ليس بالحَسَن!" فالحُسن ليس وحده الدافع إلى الحبّ.
وثَمَّةَ مَن يقول إنّ الإنسان ينجذب إلى شخص يختلف عنه في صفاته
كما ينجذب القُطبان الموجب والسالب إلى بعضهما،
وكأن الفرد يسعى إلى استكمال ما ينقصه.
ويبدو لنا أنّ العقل العربيّ يميل إلى قبول الفرضيّة المعاكسة القائل
ة إنّ الإنسان ينجذب إلى إنسان آخر يشابهه في صفاته ويشاركه اهتماماته،
ومن هنا جاء المثل العربيّ " إن الطيور على أشكالها تقع ".
ويميل إلى هذا الرأي إخوان الصفا، وهم جماعة فلسفيّة سريّة ظهرت في البصرة
في القرن الرابع الهجري ونشرت مؤلفاتها بعنوان " رسائل إخوان الصفاء
وخلان الوفاء" وأثّرت في مجرى الفكر العربيّ، فقد قالوا في فصل " ماهية علّة فنون المعشوقاتّ:
" ولكن العِلَّة في ذلك هي الاتفاقات بين العاشق والمعشوق، وهي كثيرة لا يُحصي عددَها إلا اللهُ جلّ ثناؤه."
ولعلَّ في قولهم هذا إحالة جزئية إلى الحديث النبويَ الشريف:
" الأرواح جنود مُجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف."
شدّة الحبّ:
العربيُّ وفيٌّ مخلص، فكلّما مرّ الزمان على المودَّة، نما الحبّ واشتدَّ أواره،
فتُصبِح المَحبّة كبيرة لا يمكن قياس مقدارها، فهي أزيد
من ذرات الرمل والحصى والتراب مجموعة، كما يقول لنا عمر بن أبي ربيعة:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ثم قالوا: تحبّها؟ قلتُ: بَهْراً
عددَ الرملِ والحَصى والترابِيزداد الحبّ حتّى يجد المرء نفسه محاصراً بالحبّ من كلّ الجهات
ولا مفرّ له منه، كما حصل للشاعر العباسيّ الضرير بشار بن برد:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]عن يميني وعن شمالي وقُدا
مي وخلفي الهوى، فأينَ أفرُّويذكِّر هذا الحصارُ بعضَهم بالحصار العسكريّ الذي يفرضه
الجنود الغزاة المتناوبون على إحكامه، كما تراءى لقيس لُبنى:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]غزتني جنودُ الحبِّ من كلِّ جانبٍ
إذا حانَ من جُندٍ قفولٌ أتى جُندُوهكذا لا يجد العاشق راحة من هذا الحبّ المثابر الذي لا يتوانى ولا يفتر لحظة واحدة،
وإنّما يزداد حرارة وسعيراً، فيتمنّى الخلاص منه، على حد تعبير جميل بثينة:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
عدمْتُكَ من حُبٍّ، أما منكَ راحةٌ
وما بكَ عنِّي من توانٍ ولا فترِ؟يجري هذا الحبُّ في عروق العاشق ومفاصله كدمه، ويستحوذ عليه بصورة تامّة،
ويكون شغله الشاغل، على حدّ تعبير المتنبيّ:
جرى حبُّها مَجرى دمي في مفاصلي
فأصبحَ لي عن كلّ شغلٍ بها شُغلُ.[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وهكذا يظلّ العاشق مشغولاً في ذكر دائم للمحبوب، لا يرتوي من ذكره، يقتله
الأسى ويحيه الأمل، ويعجب ممَّن يقول إنّه يذكر محبوبه، لأنّه لا ينساه
فكيف يذكره؟ فهذا القطب الصوفيّ البغداديّ، أبو بكر الشبليّ،
الذي كان يلقّبه شيخُه الجنيد بـ " تاج الصوفيّة وريحانة المؤمنين"،
كان يتهجّد في الهزيع الأخير من الليل بهذه الأبيات:
شربتُ الحبَّ كأساً بعدَ كأسً
فما نفدَ الشرابُ ولا رُويتُ
أموتُ إذا ذكرتُـكَ ثم أُحيى
فكم أُحيى عليكَ وكم أموتُ
أموتُ أسىً وأُحيى بالأماني
ولولا ما أُؤمِلُ ما حييــتُ
عجبتُ لمن يقولُ ذكرتُ حبي
وهل أنسى فأذكرُ مَن هويتُ؟[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]وهكذا يثبت الحبّ ويرسخ في القلب ويصبح جزءاً
لا يتجزأ منه كما أنّ الأصابع جزء من الكفّ،
على حدّ تشبيه مجنون ليلى:
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لقدْ رسختْ في القلبِ منكِ محبّةٌ
كما رسختْ في الراحتين الأصابعُ[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]