الآثار النفسية المترتبة على جلد الذات:يعود جلد الذات بالآثار النفسية الخطيرة على الإنسان وعلى المجتمع،
ويكون له في الأغلب بصمات مُزمنة في العديد من مجالات الحياة،
فهو يَحملُ فيروسَ "عدم القدرة على الإبداع"، و"عدم القدرة على مواجهة الأزمات"،
مع "تأزُّم التواصُل في العلاقات"، وآخرها "انعدام الأمل بمستقبل مُشرق"،
فضلاً عن الأرق والقلق، وانعدام التركيز، والكوابيس والكآبة.
وهناك الكثيرُ مِن التجارب التي تَمَّت في القرن العشرين على الحيوانات،
بالإضافة إلى الإنسان، وأدَّت إلى نتائج مفادها أنَّ جرعة معينة من الألَم الجسدي والنفسي
قد تؤثِّر بصورة إيجابية على قدرات الفرد العقلية والجسدية؛ لتحفيزه "الأدرينالين"،
ولكن هذه الجرعة إذا استمرَّت، فإن الشخص يدخل إلى منطقة ضبابيَّة من الإدراك،
يعرِّضه إلى قَبول أيَّة فكرة حتى إذا كانت منافية للمنطق أو مبادئ الشخص.
ثالثًا: كيف يمكن معالجة الشعور بجلد الذات؟إن أيَّ مرضٍ نفسي لا بد أولاً من احتوائه من المحيط الخارجي؛ سواء كانوا أهلاً أو أصدقاء أو مُعلِّمين،
ولكن الحلَّ أولاً وآخِرًا يبدأ من نفس الشخص ذاته، وذلك من خلال الحلول التالية:
1- استعن بالله... ولا تعجز: إنَّ ذِكْرَ الله يزيل المخاوف والأفكار، والتصوُّرات السلبية والوساوس،
ويطردها من الذهن في الحال، ويعيق تأثيرها على مراكز الانفِعال؛
كما جاء في قوله - تعالى - في كتابه الحكيم: ﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
2- حاسِب... بدل أن تجلد: كثيرًا ما تتداعَى لنا الذكريات، فينفرط شريط الأيام عارضًا نجاحاتنا وزَلاَّتنا،
وبين هذه وتلك لا بد من دقائق محاسَبة نقضيها مع أنفسنا، مكافئين أو مُعاتبين،
فالتعزيز له دور إيجابي في مواصلة النجاحات،
والعَتْب والمحاسبة إنما هو محاولة لنبْش مواضع التقصير والخطأ لتصحيحها.
لكن قد تعبر بنا أمواج التقصير، فنتخطَّى بها سواحل العتب؛
لنرتمي في أحضان "جلد الذات"، فلا نتوانَى في تعذيبها وتحطيمها؛
لتغرقَ في بحرٍ من فقدان الثقة.
كثيرة هي زَلاَّتنا، فنحن أولاً وأخيرًا بشرٌ، ولسْنا معصومين من خطأ أو نسيان،
لكن من الخطأ أن نتوقَّف عندها زمنًا طويلاً لا تستحقه،
وأن نُنشئ على أعتابها مزارات نُحيي بها ليالي من البكاء والنُّواح على ماضٍ لن يعود.
فمُحاسَبة الذات: هي مراجعة النفس، ومعرفة الأسباب وطُرق علاجها،
وهي ضرورية لكل إنسان صادقٍ مع نفسه قبل غيره، وتُعتبر من العوامل الهامة التي تساعد على استقرار ورُقِي حياة الإنسان وتطورها،
ومن ذلك حالة التوبة من الذنوب الكبيرة والصغيرة، فالتوَّابون يهدفون من خلال شعورهم بالذنب إلى تخليص النفس من آثامها،
والعمل الجاد لتطهيرها، من خلال بناء الذات الجديدة والقادرة على العطاء، أو الانتقام من كلِّ مصادر الفشل والقمْع.
بينما جلد الذات: هو الاستمرار في الإيذاء دون علاج، وإنزال العقاب بزيادة اللوم والتعذيب للجسد أو للرُّوح، أو للمجتمع فقط، دون التأمُّل في أسباب الخطأ.
3- اصبرْ... عالجْ... بدِّلْ:يجب التحلِّي بالصبر والهدوء في علاج أي مشكلة، أترى لو كان النبي -
صلَّى الله عليه وسلَّم - استسلَم في مهد الدعوة، ولَم يَصبر عليها، هل كانت ستصل دعوته إلينا؛ قال أندرو كارنجي[4]:
"الإنسان الذي يُمكنه إتقان الصبر، يُمكنه إتقان أيِّ شيءٍ آخرَ". وهذا التغيُّر حتى يحدث يتطلَّب القيام بالآتي: أقْدِمْ لو أخطأت،
اعتبرْ بماضيك، تطوَّرْ، أوْجِد البدائل، ولا تكن كالذبابة،
فقد ورَد أنه كان هناك ذبابة تحاول الخروج من نافذة مُغلقة،
وظلَّت تحاول وتحوم وتدور من اليمين إلى اليسار، ومن أعلى إلى أسفل،
إلى أن نَفِدَت كلُّ طاقتها وماتت، وكان بالقُرب منها باب مفتوح،
ولكنَّها لَم تحاول البحث عن طريق آخرَ للخروج، وإنما أصرَّت على الخروج من النافذة،
وأصرَّت على طريقة واحدة، مرة وراء الأخرى إلى أن ماتتْ، وكان في استطاعتها أن تخرجَ من هذا المأزِق، لو أنها فقط حاوَلَت.
4- اقتصدْ... اعتدلْ... تدرَّجْ: بلا إفراط أو تفريط، فخير الأمور الوسط، فعن أبي هريرة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
أنه قال:
((إن الدين يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلاَّ غلَبَه، فسدِّدوا وقاربوا وأبْشِروا، واستعينوا بالغَدوة والرَّوحة، وشيءٍ من الدُّلْجة))[5].
قال عمر بن عبدالعزيز لابنه: "يا بُني، لا تعجل؛ إن الله - جل وعلا - ذَمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإني أخْشَى أن أحملَ الناس على الحقِّ جُملة واحدة؛ فيَدَعوا الحقَّ جُملة واحدة، فتكون فتنة هذا هو الفَهم".
رابعًا: نهي الإسلام عن تعذيب النفس وجلد الذات:خلَق الله الإنسان مكرمًا؛ قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وهذا التكريم اقْتضَى الحفاظ على النفس من إلحاق الضرر بها، فالنفس الإنسانية ليستْ ملكًا لصاحبها، فلا يجوز الاعتداء عليها من قِبَل صاحبها أو غيره؛ بالقتل أو التعذيب، أو الجلد أو غير ذلك؛ قال - تعالى -:
﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((
مَن تردَّى من جبلٍ، فقتَل نفسه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن تحسَّى سُمًّا، فقتَل نفسه، فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن قتَل نفسه بحديدة، فحديدتُه في يده يَجَأُ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))[6].
فمن مقاصد الشريعة حِفْظ النفس الإنسانية من كلِّ سوء تتعرَّض له، وأنه لا ضررَ ولا ضِرار، كما أنَّ الضرر لا بد وأن يُزالَ، ولقد جاءت الشريعة الإسلامية بإباحة كلِّ ما يُفيد البدن ولا يضرُّه، وتحريم كلِّ ما فيه اعتداء على البدن وإضرار به، وقد قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((
فإن لجسدك عليك حقًّا))[7]، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "نذَرَت امرأة أن تمشي إلى بيت الله، فسُئِل نبي الله عن ذلك، فقال: ((
إنَّ الله لَغَنِيٌّ عن مَشْيها، مُروها فلتركبْ))"[8].
إن الإنسان في نظر الإسلام كلٌّ متكامل: رُوحًا وجسدًا؛ قال - تعالى -: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾ [القصص: 77]، ويتَّصف منهاج العبادة في الإسلام بأنه منهاج فِطري، ذو طبيعة اجتماعية حرَكيَّة، لا يؤمن بالفصل بين الدنيا والآخرة؛ فهو لا يدعو إلى مُحاربة المطالب الجسديَّة، بدعوى أنَّها تعارض التكامل الرُّوحي، والتقرُّب من الله، بل وازَن بمنهاجه موازنة تامَّة بين الرُّوح والجسد، ولَم يَفصل بينهما؛ لأنَّ الإسلام لا يرى في مطالب الجسد حائلاً يقف في طريق تكامُل الرُّوح، أو عائقًا يعرقِل تنامي الأخلاق، بل يؤمن بأنَّ هدفَ الجسد والرُّوح من حيث التكوين الفطري هدفٌ واحد، ومنهاج تنظيمها وتكامُلها منهاج واحد.
وفي بعض الأحـيان يفرض الإسـلام كفَّارات بَدَنية، كالصوم، أو مالية تُدفَع للفقراء والمحتاجين، كالطعام والكسوة، من غير أن يعرِّض الجسد للتعذيب، أو النفس للإرهاق والمشقَّة المتلفة؛ قال - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، وقال - تعالى -: ﴿
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
والحمد لله ربِّ العالمين.