غربةٌ في الوطن!!!

غربة في الوطن

عند قراءة العنوان للوهلة الأولى، يتخيل للقاريء الكريم بأن القصد غربة الإنسان عن وطنه فحسب؛ إلا أن الموضوع أبعد من ذلك: فلا أريد الحديث عن غربة الإنسان العربي عن وطنه وهو مقيم على ترابه يتنسم هواءه ويعيش آلامه وآماله، فقد سبقني أمير الشعراء أحمد شوقي يرحمه الله حيث قال:
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
وقلت في قصيدة لي:
... شبابها ضياع .. شعوبها جياع
وأرضُها، وسماؤها،
باتت تحل لكل وغد أجنبي
وحُرِّمتْ على أبنائها العرب ...

إلا أن الغربة المقصودة في هذا المقام سأسحبها على لغة العرب التي تعاني من الغربة والوحشة في ديارها، وتتألم من الإهمال والضياع في وطنها ... لغتنا العربية التي خصّها الله تبارك وتعالى فجعلها لغة القرآن الكريم ولغة أهل الجنة في الجنة، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف/2 ، وقال أيضاً: (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) الزمر/28 ، وقال سبحانه: ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) الأحقاف/12. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ( أحب العرب لثلاث: لأني عربي ولأن القرآن عربي ولأن لسان أهل الجنة عربي). من هنا تنبع قدسية اللغة العربية وأهميتها في حياة المسلم؛ نعم، أقول المسلم ولا أقول العربي، لأن المسلم قد يكون عربياً وغير عربي، ولا بد له من معرفة اللغة العربية ليفهم القرآن الكريم ويؤدي شعائر دينه.

اللغة، أي لغة، مفتاح الحضارة وعنوانها، وهي الهوية القومية للأمة، وهي مفتاح فهم الدين، فاللغة والدين صنوان. فقد كان العربي يرضع اللغة مع حليب اللبا من صدر أمه، وأما اليوم، فأول ما يعلّم الآباءُ والأمهاتُ أطفالهم كلمة (بابا) وكلمة ( باي باي ) مع التلويح باليد، فأين نحن من ذلك الغلام العربي الذي شرب من قربة الماء ولم يتمكن من ربط الوكاء فنادى أباه قائلاً: ( يا أبتِ أدرك فاها فقد غلبني فوها لا طاقة لي بفيها).. وأين نحن وقد غزتنا لغة الغرب حتى تعاملنا في بيوتنا، فاستبدلنا كلمة (الزوجة ) بكلمة ( المَدام )، وبعضهم يضم الميم الأولى فيقول ( المُدام)؛ وتحضرني هنا قصة طريفة قبل أكثر من ثلاثين عاماً حيث زرت أحد أقاربي في بلدة كفرأسد فسألني: ( كيف المُدام؟) فقلت: (حرّمها اللهُ ورسولُه).. ومن ثم بيّنت له بأن كلمة ( المُدام ) تعني (الخمرة)....

من المعروف بأن جزيرة العرب هي المهد الذي نشأت في اللغة العربية وترعرعت وهي بيتها ومأواها ... إلا أن العجب العجاب ما نراه في جزيرة العرب بخاصة وبلاد العرب بعامة: استعمال لغة الوافد الأعجمي للتفاهم معه، وإذا ذهبنا لبلاد غير العرب نتكلم لغتهم للتفاهم معهم.. ومما يندى له الجبين ما نراه اليوم من حملة للشهادات العلمية المختلفة التخصصات والمستويات لا يستطيعون قراءة بعض آيات من كتاب الله ... الطالب العربي ينهي المرحلة الثانوية ولا يعرف أقسام الكلام ... لا يحفظ الطالب شيئا من ديوان العرب ( الشعر ) إلا النزر اليسير واليسير جداً، لكن شبابنا يحفظون من الأغاني الساقطة ما لا يحصرها عدّ ...

يسعى أعداؤنا إلى إبعادنا عن لغتنا لنبتعد بذلك عن القرآن الكريم فلا نفهمه فنضيِّع ديننا وقيمنا ومبادئنا الفاضلة، فغلّبوا استعمال اللغة العامية: فهناك بعض الإذاعات ومحطات التلفزة العربية لا تستعمل إلا العامية حتى في نشرات الأخبار ... والشيء المُلفت للنظر والجدير بالاهتمام أن بعض الدعاة يستعملون اللهجة العامية ( لغة الشارع) في الدعوة .. لا أريد أن أذكر أياً من هؤلاء الدعاة فالكل يعرفهم ويشاهدهم على الفضائيات العربية وهم كثر !!!

لا بدَّ لي في هذا المقام من الاستشهاد ببعض آثار غزو لغة العرب لبلادنا وسريانها في جسم لغتنا سريان السمِّ في جسم اللديغ:

* إذا لقي أحدنا الآخرَ يقول له ( هاي Hi ) بدلاً من تحية الإسلام ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، وهل هناك أفضل من السلام والرحمة والبركات من الله تبارك وتعالى؟!... وإذا أراد شخص وداع آخر يقول: ( طيب، باي) لتحل محل عبارة الوداع التي كان يودِّع بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه (نستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).

* نطلق كلمة ( باركنات) على مواقف السيارات، وهي مأخوذة من الكلمة الإنجليزية (parkings) وهي من الفعل (park)، وإذا ما قام شخص ما بإيقاف سيارته في موقف معين يقول (برّكت) وهي من الإنجليزية (parked) ... صحيح أن كلمة park مأخوذة من الأصل العربي ( بَرَكَ) حيث تعود إلى الراحلة، ومكان بروك الراحلة يسمى (مِبْرَك) ويقابله بالإنجليزية parking ، وقد استبدلت الراحلــــة ( الناقة أو سواها من الحيوانات المخصصة للركوب) بالسيارة... لكـــــــــــن هل نستعمـــــــل ( باركنات/ برّكت/ أبرّك) لأنها عربية الأصل؟ لا والله، فلو كان مستعملُها يعلم بأنها عربية الأصل لما استعملها!!

* سمعت لقاءً أجري في هيئة الإذاعة البريطانية مع مهندس زراعي مصري، كان المهندس ينطق بكلمات عربية ويفسرها ( للأسف) بكلمة إنجليزية، وأذكر من هذه الكلمات حيث قال: ( التربة يعني soil)... فهل كلمة (التربة) غير مفهومة عربياً؟!!


لا أستطيع حصر آثار هذا الغزو ولا أخطاء النطق والاستعمال واللحن فإن ذلك لا يحصيه عدٌّ، إلا أنه يجدر أن أذكر نقطة هامة في هذا السياق؛ فقد شاهدت الكثير من المحاضرات والندوات واللقاءات التلفزيونية يلقيها أو يشارك فيها أو يديرها مثقفون ذووا شهادات علمية عالية، وخطباء ووعاظ مساجد يكثرون من تكرار خطأ فاحش شائع وهو كلمــة ( قُبول) على أنها مصدر الفعل ( قَبِلَ)، وهذا استعمال خاطيء فهي جمع ( قُبُل) والقُبُلُ عكس الدُّبُر؛ وأما الصحيح فهو كلمة ( قَبول) بفتح حرف القاف: ( قَبِلَ قَبولاً )، قال تبارك وتعالــــى: ( فتقبَّلها ربُّها بقََبولٍ حسنٍ .....) آل عمران/37.

وتحضرني أبيات للشاعر علي الجارم حيث قال:

والضادُ حسب الضادِ فخراً أنها //كانت لسانَ الله فـــي قرآنهِ
هي سؤددُ العربي يوم فخـــاره // وقوام نهضته وســـرّ كيانهِ
من ذاد عنها ذاد عن أحســـابه // بل عن عقيدته وعن إيمانهِ

ولله درّك يا شاعر النيل، حافظ إبراهيم، يوم نظمتَ قصيدتك العصماء متحدثاً بلسان حال اللغة العربية قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، حيث قلتَ حينذاك:

رجعتُ لنفسي فاتهمت حصاتي// وناديتُ قومي فاحتسبتُ حياتــي
رموني بعقم في الشباب وليتني//عقمتُ فلم أجزع لقول عُداتــــي
ولدتُ ولما لم أجـــدْ لعرائســي//رجالاً وأكفاءً وأدتُ بناتــــي
وسعتُ كتاب الله لفظاً وغايــةً//وما ضقتُ عن آي ٍ به وعِظـاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلـة// وتنسيق أسماءٍ لمخترعـــاتِ؟
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامــن// فهل سألوا الغواصَ عن صدفاتي؟
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسنـي// ومنكم وإن عزَّ الدواء أساتــــي
فلا تكِلوني للزمان فإننـي// أخاف عليكم أن تحين وفاتـــــي
أرى لرجال الغرب عزّاً ومنعـة// وكم عزَّ أقوامٌ بعـــزِّ لغــاتِ
أتوا أهلهم بالمعجـزات تفنناً// فيا ليتكم تأتــون بالكلمـــــاتِ
أيُطربكم من جانب الغرب ناعـبٌ// ينادي بوأدي في ربيع حياتــي؟
سقى الله في أرض الجزيرة أعظماً// يعــــزُّ عليها أن تلين قناتـي
أرى كل يوم بالجرائـــد مزلقـاً// من القبر يدنينـــي بغير أنـاةِ
وأسمع للكتاب في مصر ضجـة//فأعلم أن الصائحين نُعاتــــــي
أيهجرني قومي عفا الله عنهمُ // إلى لغــــة لم تتصـــل برواةِ
سرَتْ لوثة الإفرنج فينا كما سـرى// لُعاب الأفاعــي في مسيل فراتِ
فجاءت كثوب ضمَّ سبعين رقعـــة//مشكّلــــة الألوان مختلفـاتِ
إلى معشر الكتاب والجمع حافــل// بسطتُ رجائي بعد بسط شكاتــيِ
فإما حياة تبعث المَيْتَ في البِلـى//وتُنبتُ في تلك الرموس رفاتـــي
وإما ممـــات لا قيامة بعـده// ممات لَعمري لم يُقسْ بممــــاتِ

أستميحك عذراً يا شاعر النيل، بل يا شاعر العربية، ماذا ستقول لو قدِّر لك العيش لهذه الأيام وترى معاناة لغتنا العربية في هذه الأيام الحالكة، حيث يحاربها أبناؤها قبل أعدائها !!! وتسمع لسان الضاد يستصرخ أهله وعزوته لإنقاذه من الإنزلاق لئلا يصبح ( لسان الداد )!!!! فإن أخشى ما أخشاه إذا ما ساد (لسان الداد) أن يخيب أمل الشاعر القائل:
لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان
بأن يجمعنا لسان الداد بالعم سام وحُمُرِ الإنجليز !!!!!!!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

... محمود فالح مهيدات ...