وقال لها : يا ليلى، أنشدينا بعض شعرك في توبة .
فأنشدته قصيدة تقول فيها :
لعمرك ما بالموت عار على الفتى ** إذا لم تصبه في الحياة المعاير
وما أحد حي وإن عاش سالما ** بأخلد ممن غيبته المقابر
فلا الحي مما أحدث الدهر معتب ** ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشر
أحجاج إن الله أعطاك غاية ** يقصر عنها من أراد مداها
أحجاج لا يفلل سلاحك إنما الـ ** حنايا بكف الله حيث تراها
فأمر الحجاج بقطع لسانها، ولكنها أنقذت نفسها بإنشاد أبيات أخرى في مدحه.
وحقيقة الأمر أن توبة كان شابا طائشا متهوراً، لا صنعة له سوى إثارة المشاكل مع بعض القبائل وبالذات بنو الحارث بن كعب وخثعم وهمدان بل أنه كان كثير التحدث إلى النساء.
وقيل أنه كان يغري على القبيلة في شدة الحر والقيظ، فإذا ما طاردوه أسرع إلى مغارة منكرة لا يقطعها الطير، فيرجعون عنه خشية الموت في تلك المغارة عطشا.
أما هو فكان يستعد قبل الإغارة بأن يحمل بعض الماء ويدفن منه على مسيرة كل يوم مزاده فإذا ما سلك المغارة وجد ماءه، وعاش عليه .
هذا هو توبة الذي فعل كل ذلك بليلى الأخيلية وجعل قصتها على كل لسان ؟!
يروى أنه خرج إلى الشام، فمر ببني مذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه، فشق ذلك على جميل، ومعروف غرام جميل ببثينة، ولكن حدث ذلك قبل أن يظهر حبه لها .
عندئذ شعر جميل بالغيرة الشديدة واندفع يسأل الفارس القادم : من أنت ؟! فأجابه : أنا توبة بن الحمير .
وكما يحدث دائماً، عندما يشعر العاشق أن المرأة التي يهواها ترقبه، ويود أن يظهر لها شجاعته وفروسيته، تحدى جميل توبة أن يصارعه، وتشابكا وكانت الغلبة لجميل، ثم تبارز، وهزم توبة أيضاً، وأخيرا تسابقا، فسبقه جميل .
كل هذا وبثينة ترقبهما عن قرب، وأدرك توبة، بخبرته في مجال العشق، أن القوة التي تغلبه في جميل مستمدة من عيني بثينة الساحرتين، فقال له : يا هذا إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة، ولكن اهبط بنا الوادي.
وهناك بعيدًا عن عيني المحبوبة، تمكن توبة من غلبة جميل في المصارعة والمبارزة والسباق أيضا !!
ههههههههههه جميل أقصد شيء جميل ههههه
وكان توبة يعشق ليلى ويقول فيها الشعر، وكان معتاداً على زيارتها، ولم تكن تلك الزيارات سرية بل كانت في العلن، فلما كثرت عاتبه أخوها وقومها .
وكان قد خطبها من أبيها، ولكنه أبى أن يزوجه إياها.
ولم ينتظر الأب كثيراً، بل أسرع بتزويج ليلى من أحد بني الأدلع .
وفوجأ توبة وحزن حزنا شديدا، ولكنه استمر في لقاء ليلى.
وواضح أيضا أنها لم تكن تمانع في لقائه.
ولم يجد الأهل من وسيلة لعلاج هذا الأمر سوى الشكوى إلى السلطان.
ولم يجد السلطان حلا لهذه المشكلة سوى أن يبيح لهم دم توبة .
وكان زوج ليلى غيورا فأقسم ليقتلنها إن هي لم تعلمه بمجىء توبة، أو إن هي أنذرت توبة بأن أهلها يتربصون به ليقتلوه .
وهذا هو تصرف الزوج الهمام .
وتحكي ليلى بقية الحكاية بقولها : "وكنت أعرف الوجه الذي يجيء منه، فرصدوه بموضع ورصدته بآخر، فلما أقبل لم أقدر على كلامه لليمين، فسفرت وألقيت البرقع عن رأسي" .
فلما رأى ذلك أنكره فركب راحلته ومضى، ففاتهم.
وهكذا، بحيلة طريفة، غاية في الذكاء، أنقذت ليلى حبيبها توبة من القتل المؤكد، أما توبة فرجع إلى راحلته وركبها ومضى ينشد قصيدة طويلة تبدأ بهذا بالبيت :
نأتك بليلى دراها لا تزورها ** وشطت نواها واستمر مريرها
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ** فقد رابني منها الغداة سفورها
وبذلك التيار السحري الذي يسري بين كل ن عاشقين، فطن توبة لحيلة ليلى وأدرك أن سفورها علامة خطر، وتحذير، وإشارة تقول له ابتعد .. انج بحياتك .
والحكايات كثيرة عن غيرة زوج ليلى الأخيلية، وشكه فيها لدرجة أنه أوشك أن يقتل رجلا بريئا لمجرد أنه اقترب منها، وكان الرجل من بني كلاب، يبتغي إبلا له حتى نفد زاده وجاع، وحينما جاء الليل وجد نفسه قريبا من بيت ليلى، ولم يكن يعرف بيت من هذا، ولكنه اقترب من الخباء ولم يجد به أحدا، فنزل حيث ينزل الضيف .
وهي عادة بدوية معروفة أن يترك أهل البيت مكانا معدًا لعابري السبيل الذين يضلون طريقهم في الصحراء، أو لا يرغبون في السفر في أثناء الليل، وعاد زوج ليلى وكان قد شاهد شبح الضيف من بعيد، فمضى يضربها وهو يصيح: والله لا أترك ضربك حتى يأتي ضيفك هذا ويغيثك.
فلما عيل صبرها نادت : يا صاحب البعير يا رجل ! فأسرع نحوها الضيف وهو يحمل أشياءه، وراح يكيل للزوج ولكنها منعته، وحالت بينه وبين زوجها، فانصرف عنهما.
وفي الطريق سأل بعض الناس عن ذلك البيت وصاحبه وزوجته فعرف أنها ليلى الأخيلية .
هكذا كان زوج ليلى غيورا مندفعا، فكيف كان توبة يتحايل ويلقاها ويجددان العهد حتى أنها ظلت تجاهر بحبها له لآخر يوم في حياتها .
ذلك واحد من الأسئلة المحيرة التي تطارد من يقرأ هذه القصة.
والمدهش أن تلك القصة ذاعت في حينها وتناقلتها الأفواه حتى وصلت إلى الحكام، فنجد المنشدين يرددون أشعارهما، والمغنين يلحنونها ويغنونها وأبا الفرج الأصفهانى يخلدها في كتاب الأغانى .
بل إن قصيدة واحدة من قصائد توبة غناها عدة مغنين من بينهم ابن سريج والهزلي وابن محرز وابن مسجح، وفي هذه القصيدة أبيات يخاطب بها توبة ليلى الأخيلية فيقول :
حمامة بطن الواديين ترنمي ** سقاك من الغر الغوادي مطيرها
أبيني لنا لازال ريشك ناعما ** ولازلت في خضراء دان بريرها
فهو يراها كالحمامة ذات الريش الناعم والصوت الجميل تترنم بالأشعار حول حبهما، ويدعو لها بأن ترتوي بماء المطر ،وأن تظل أجمل ما في المكان الذي تعيش فيه.
وهو يحكي كيف يتلصص على ليلى من مكان قريب لعله يراها أو حتى يرى من يراها، كما كان قيس بن الملوح يقول عن ليلاه هو أيضا .
وأشرف بالقوز اليفاع لعلني ** أرى نار ليلى أو يرانى بصيرها
ثم هو يدافع عن حبه لليلى، لأنه حب عفيف لا يبتغي شيئا سوى زيارتها، أي الجلوس إليها والاستمتاع لحديثها الحلو، وهو أمر يمكن فهمه تماما إذا ما عرف أن هذه الحبيبية ليست عادية، بل هي واحدة من الشاعرات العربيات الكبيرات، فيقول :
على دماء البدن إن كان بعلها ** يرى لي ذنبا غير أني أزورها
وإنى إذا ما زرتها قلت يا أسلمي ** وما كان في قول أسلمى ما يضيرها
وقد رويت هذه الأبيات عن الأصمعي فعقب قائلا : شكوى مظلوم، وفعل ظالم .
كان توبة شابا غريبا، سابقا لزمانه، وصف بأنه كان شريرًا كثير الإغارة، وقال معاوية بن أبي سفيان عنه أنه كان: " عاهرا خاربا " أي لصا.
أما ليلى فكانت تراه أفضل الرجال وأكملهم خلقا وحسنا، وظلت تحكي حكايتها معه وتفيض في مدحه حتى شعر الحجاج بالغيظ وأمر بقطع لسانها، وسألها عبد الملك بن مروان بعد أن سمع قصيدة لها فيه : وما أبقيت لنا .. ؟!
وعندما استقبلت خبر مقتل حبيبها توبة بكته بالدمع الثخين ورثته في قصيدة مطولة تدافع عنه، وفيها تقول :
وتوبة أحيا من فتاة حيــة ** وأجرأ من ليث بخفان خادر
ونعم الفتى إن كان توبة فاجرا ** وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر
وقد غنى المغنون قصائدها العديدة في رثاء توبة، وكان للقصيدة الواحدة أكثر من لحن وأكثر من مغن .
وقد ظلت على حبها لتوبة إلى آخر يوم في حياتها، حتى كانت ذات يوم على سفر، فمرت بقبر توبة ومعها زوجها، فأصرت على أن تزور القبر لتسلم على توبة، وحاول زوجها أن يمنعها ولكنها أصرت فتركها.
واقتربت من قبر توبة، ثم قالت: السلام عليك ياتوبة، ثم حولت وجهها إلى القوم وقالت : "ما عرفت له كذبة قط قبل هذا …. أليس القائل :
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ** علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ** إليها صدى من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أنا له ** ألا كل ما قرت به العين صالح
فما باله لم يسلم على كما قال !
وفي تلك اللحظة فزعت بومة كانت تكمن بجوار القبر، فنفر الجمل ورمى ليلى على رأسها فماتت من ساعتها، ودفنوها إلى جانب توبة .
وأسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري.....